د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *
الفساد الخليجي نوع خاص من الفساد، يستعصي على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية العالمية، يختلف عن الفساد العام المعروف في أدبيات مكافحة الفساد في دول العالم؛ كونه أحد إفرازات الاقتصاد الريعي، وثقافته، وقيمه، وعقليته، وسلوكه الاجتماعي، ونظامه السياسي (راجع مقالي ثقافة الريع).
الريع أفرز تحديثاً واسعاً، وعُمراناً جاذباً للمال والبشر، ونقل الخليج إلى مركز الصدارة، وأعطاه مكانة متقدمة على المستوى العربي والإقليمي، وجعله لاعباً دولياً مؤثراً في الساحتين الإقليمية والدولية، لكنه في الوقت نفسه عزز التفرد بالقرار العام، ومكن الدولة الخليجية الهيمنة على مجتمعها وشعبها، فأصبح عالة عليها، يعيش على ما تنعم به في صورة مكرمات وامتيازات ومنح وأعطيات.
أُس الفساد الخليجي يتمثل في زواج المال بالسلطة، والحكم بالتجارة، ليشرعن وضعاً لا يخضع لمعايير مدركات الفساد العالمية التي تستقي بياناتها من خلال انطباعات رجال الأعمال والمستثمرين في بيئات العالم المختلفة عبر استبياناتها السنوية (وهي غالباً تقيس الفساد الخارج عن القانون مثل: رشا الموظفين لتخليص الأعمال، وفساد العمولات في الصفقات الكبيرة، لكنها لا تقيس الفساد المقنن والممارس من قبل السلطة لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو لتنفيع فئات متنفذة على هيئة منح وتسهيلات ومكرمات وامتيازات خاصة).
ومن هنا، تحتل الدول الخليجية مرتبة الدول الأقل فساداً على المستوى العربي، لكن الانطباع الشعبي العام بخلافه، هناك وعي خليجي قوي ضد ظاهرة الفساد، ولا حديث للمجتمع الخليجي كحديثه عنها ومطالبة السلطات بتفعيل آلية المساءلة، وهذه إحدى المفارقات المثيرة للتساؤل حول مدى موضوعية وقدرة هذه الاستبيانات على قياس الفساد الخليجي !
الفساد وثقافة الديمقراطية
للباحثين والكُتاب الخليجيين مقالات ودراسات مستفيضة حول تفاقم ظاهرة الفساد في المجتمع الخليجي وتأثيراتها الخطرة على المواطن وعلى التنمية، وسبل مواجهتها واحتوائها، إضافة للعديد من الندوات عبر العقود الماضية، وفِي هذه السنة ينظم "منتدى التنمية الخليجي" في لقائه السنوي الواحد والأربعين ندوة عن "تأثير الفساد على التنمية المستقبلية في دول الخليج" وهناك أوراق بحثية جيدة مقدمة.
الفساد وثقافة الديمقراطية لا يتعايشان معاً في بيئة واحدة لأنهما مفهومان متعارضان، لا يمكن لقيم الحرية والمساواة والعدل وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون والشفافية والرقابة والمساءلة أن تحيا في مجتمع ينتشر فيه الفساد بلا مساءلة؛ فالغالب منهما ينفي الآخر حتما. الفساد يقتل ثقافة الديمقراطية.
إضافة إلى مخاطر فساد زواج السلطة بالتجارة، فإنَّ للفساد الخليجي ألواناً أخرى: تشريعيًّا، عنصريًّا، إداريًّا، ماليًّا، قيميًّا وإعلاميًّا، وهناك فساد ثقافي اجتماعي يكافأ من السلطة، كما في تغريدة لا تخلو من السخرية للمفكر القطري عبدالعزيز الخاطر: "أي باحث في علم الفيروسات لا يساوي شيئاً في مجتمعاتنا أمام شاعر متملق يحظى بالأولوية والتكريم، لا يمكن أن نستخلص لقاحا لمرض، لكن يُمكن أن نطرز مجلدات في المدح ومكرمة الحاكم!) وكان تعليقي الساخر: "لماذا العناء في استخلاص اللقاح في مجتمع منعَّم بالريع الذي يجلب أفضل اللقاحات العالمية؟!" فرد قائلاً: "هذا تبرير مقبول لمجتمعات الخليج، لكن ما التبرير للدول العربية الكبرى؟! المشكلة ليست في الريع المادي بقدر ما هي في الفكر الريعي".
هذا يلخِّص مُعضلة التأزم العربي كله أمام الولوج إلى عالم الحداثة وقيم الحرية والديمقراطية. إنَّها بعبارة أخرى "غلبة العقلية الريعية غير الإنتاجية على مراكز الإنتاج في الوطن العربي وعلى الاقتصاد العربي في مجمله"، طبقاً للمفكر الاقتصادي الفذ الدكتور حازم الببلاوي.
وهذا هو أُس الفساد الخليجي الذي لم يكتف بإفساد مجتمعه، بل تجاوزه للمجتمعات العربية الأخرى .
أخيراً.. ليس معنى كل ذلك تحميل "الريع" المسؤولية، فهو "نعمة من المولى محمودة" أشبع الخليج بعد جوع، وآمنه بعد خوف، ومكنه من أن يحتل الصدارة الدولية بعد أن كان طرفاً مهمَّشا، لكن المقصود نقد أسلوب إدارتنا لهذه النعمة التي مهما شكرنا المولى عليها فلن نفيه حقه.
* كاتب قطري