روبن هود "أمير الستريمرز"

 

خالد بن الصافي الحريبي

قد يبدو  لكم أنَّ هذه قصةٌ عن "روبن هود أمير اللصوص"- أحد أبطال طفولتنا الشعبيين- الذي عاش مع أصدقائه آخذاً من الأغنياء ليُعطي الفقراء في إنجلترا، ولكنها ليست كذلك.

قبل بضع سنوات، بينما كنَّا نسمع أن سوق المال العالمي كان يئِن تحت وطأة آثار الأزمة المالية العالمية، كان شابان حديثا التَّخرج يحلمان بتغيير قواعد لعبة المال والاستثمار. وسعى هذان الشابان فلاد تينف وبيجو بات، خريجا جامعة ستانفورد الأمريكية العريقة، إلى تحويل حلمهما ومشروع تخرجهما إلى شركة ولكن ليست كالشركات، بل شركة تقنية مالية ناشئة (Fintech) مبنية على رسالة إنسانية؛ تقوم على أنَّ جيلهما حباه الله بنعمة تطويع التقنية، لذا فإنَّ مسؤوليتهما تكمن في ابتكار وسيلة تتيح للبسطاء من صغار المُستثمرين تداول أسهم سوق المال بيعاً وشِراءً، عن طريق تطبيق مجاني في هواتفنا النقالة  مقابل بيانات التعاملات، بصورة تحقق غايتهم في أن يعيشوا سعداء في حياة كريمة.

وما إن بدأوا في العام 2013  حتى انهالت عليهم التَّحديات والمخالفات من الجهات الرقابية على سوق المال التي توجست خيفة من تطبيقهم المالي الذي أسموه "روبن هود". ولكنهما ككل رواد الأعمال الموهوبين صبروا على ما أصابهم- لعلَّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا. وبعد بضع سنين عِجاف جاءهم الغيث إلى أن وصلت قيمة تطبيق روبن هود لأكثر من 7 مليارات دولار واتضح أنَّ هذه لم تكن إلا بداية القصة فقط.

قصة نوكيا وجيم ستوب

من اسمها؛ أسواق المال لأصحاب المال والذهب وليست لمن يسكن الأكواخ أو دور القصب، كما تقول قصيدة يمنية معروفة، وليست لأصحاب القلوب الضعيفة ولا الجيوب البسيطة، ولكن الأسبوع الماضي هذا العرف تغيَّر، إلى الأبد، وخصوصاً في سوق المال الأمريكي "وول ستريت". فبعض أسواق المال كالغابة ما إن تحس الوحوش الضارية باستكانة الفريسة حتى تُجهز عليها، مراراً وتكراراً، وكانت هذه سنة الأعمال في أسواق المال.

 فخلال شهر يناير الماضي، تجمعت وحوش صناديق استثمارية ضارية لتفتك بشركة عن طريق المُراهنة على خسارتها وتصويب سِهام استثماراتهم بأسلوبٍ ظاهره تدوال تجاري وباطنه افتراس انتهازي يُسمى بـ"الشورتنج"، بمئات الملايين ضد شركة اسمها "جيم ستوب"، وهي سلسلة محلات لبيع ألعاب الفيديوهات التي انقرضت أو تكاد، ولكن لها ذكرى خاصة لدى من عاش في أمريكا من جيل السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات لارتباطها بشباب ممن هم من فئة  صغار المستثمرين. ولأنه سبحانه مُغير الأحوال؛ ثار صغار المستثمرين المسجلين في تطبيق "روبن هود" على إسراف وإمعان هذا النوع من الصناديق الاستثمارية في محو شركات صغيرة ومُتوسطة من الوجود، واستنجدوا بـ"الستريمرز" (Streamers) وهم رواد البث الحي للألعاب والمواد الترفيهية والمعرفية المتنوعة وقد تصل فيديوهاتهم لعشرات الملايين.

وأصل هذه الكلمة من سريان البث غير المنقطع كسريان مياه الجدول الصغير (تيار الماء Stream). ولعلك لو سألت أي طفلٍ اليوم: ماذا تُريد أن تصبح عندما تكبر؟ لأجابك أغلبهم: "ستريمر"، وأرجو أن يبتكر المختصون ترجمة مُناسبة بلغة الضاد وقد تكون الترجمة الحرفية لهذه المهنة المهمة لحاضرنا ومستقبلنا هي "باثٍ". وسرت دعوات هؤلاء الستريمرز وانسابت فيديوهاتهم كالماء في جداول شبكات التواصل الاجتماعي الشبيهة بتويتر، وأهمها وأكثرها تأثيراً "ريديت".

وخلال معركة مالية لتكسير العظم استمرت حوالي 48 ساعة انقلبت موازين المعركة لصالح صغار المُستثمرين وأصيبت أغلب صناديق الاستثمار بالذهول وانقلبت على بعضها وخسرت مئات الملايين، لدرجة اضطر معها تطبيق "روبن هود" للتقديم على قروض وتعزيز ملاءته المالية بجولة تمويلية. ومع ذلك تواصلت ثورة صغار المستثمرين ووبدأوا بتصويب سِهام استثماراتهم لإنعاش شركات تقنية مُماثلة مثل شركة نوكيا، التي لها مكانة خاصة في ذكريات كل بيت عُماني، وشركة بلاكبيري وشركة سينمائية، لدرجة اضطر معها تطبيق روبن هود لتعليق تدوال الأسهم مُؤقتاً.

وقصة روبن هود وجيم ستوب، التي غلبت فيها فئة تطبيقات بسيطة صناديق استثمارية عملاقة، تعد بداية تغيُر جذري في عالم المال والأعمال؛ حيث كسبت الشركات التقنية المالية الناشئة مقاعد على طاولة كبار الشركات المالية والمصرفية وصناديق الاستثمار.  ومن المقرر أن تعقد لجنة الخدمات المالية في الكونجرس الأمريكي جلسة استماع خاصة هذا الشهر لمُناقشة تأثير روبن هود والستريمرز، وستخرج بلوائح جديد تعزز إتاحة أسواق المال لتداولات صغار المستثمرين.

أين أصدقاء روبن هود؟

ما أشبه تطبيق روبن هود الأمس بتطبيق روبن هود اليوم. فروبن هود إنسان بسيط خلّده التاريخ الإنساني كبطل شعبي إنجليزي عاش في زمن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا. وفي زمنه غّرَرَت به وبمئات الآلاف من البسطاء المتحمسين حملةٌ رسمية مُغرضة بتواطؤ من بعض رجال البابا الكنسيين وبعض الأمراء الجشعين وبعض مسؤولي إنفاذ القانون تحت شعار "الحملة الصليبية لتحرير الأراضي المُقدسة". ولكن ريتشارد قلب الأسد كشف زيف الحملة الصليبية ولم يبرح حتى بلغ عقد معاهدة سلامٍ مع الملك الناصر وعاد لوطنه وقاد جهود تأسيس منظومة من المُخلصين، منهم روبن هود وأصدقاؤه، كانت له خير عونٍ في أمانة إعطاء كل ذي حق حقه. وبذلك مهدت هذه المنظومة الطريق لخلفائه لتخليص إنجلترا من ثالوث الجهل والفقر والمرض؛ لتصنع في غضون بضع قرون مجد "إمبراطوريةٍ لا تغيب عنها الشمس" لغاية الحرب العالمية الثانية، لها ما لها وعليها ما عليها.

واليوم كما شاءت الأقدار أن تتعاون منظومةٌ من الرواد الستريمرز وأصدقاء تطبيق روبن هود لتكون سبباً من أسباب الرزق والخير والمجد لمجتمعاتهم، فإنَّ مجتمعاتنا بحرٌ "في أحشائه الدر كامن" من الرواد المبتكرين. وحريٌ بنا كمجتمع أن نُيّسِر لهم التقدم نحو المُستقبل بثقة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ تغبطنا الأسواق الإقليمية على وفرة روادٍ مُبتكرين أسسوا شركات ناشئة في مختلف القطاعات ذات قيمة محلية مضافة عالية مثل شركة تيّار، وإدلال، وثواني، وإنفوسبارك، وإنوتك، ونَفَس، وصُناع عُمان، ومصنع الابتكار، وتعافي، وأوتاكسي، وبيمة، ورِحَال، ومندوب، وتواصل، وشمس، ومُباشر، ونفاذ، وماركيت إكس، وواثق، و"إي  بناء"، وخدمات التدوير الإلكترونية، والمجرة المتميزة للتقنيات، وبدر البيان للترجمة الذكية، وآتومز لاب، وبسين، و23 درجة شمال، وسَعف، وأسرار العارض، وتسكين، وحُسام للتقنية، وصدى الشباب، ورؤية الشباب، وغيرها الكثير.

وأضعف الإيمان أن نبحث عنهم في محركات البحث في الإنترنت ونسألهم عن القيمة المحلية المضافة لمنتجاتهم وخدماتهم وأنا على أتم الثقة من الرازق الكريم أننا لن نجد منهم إلا كل خير. ففي غابة السوق العالمي لريادة الأعمال وشركات التقنية الناشئة إما أن يرفل المجتمع بالتقدم الاجتماعي والاقتصادي بابتكارات الرواد، وإما أن يخسر هذه الفرصة ليفترسهما خصمٌ  داخلي خطير هو دخول الكِبر والغرور إلى أنفسهم جرّاء المال، أو ليفترسهم خصمٌ طبيعي خارجي عبارة عن الصناديق العملاقة التي تغريهم بثمن بخس دارهم معدودات، وما تلبث تتركهم لينقطع عملهم دون إرثٍ ولا أثرٍ ولا علمٍ نافع ولا صدقةٍ جاريةٍ ولا أناسٍ صالحين يدعون لهم.

ونظراً لأنَّ الأوضاع العالمية سرّعت نمو الطلب على منتجات وخدمات هذه الشركات فإنها فرصة سانحة لتوسيع برنامج وطني، كبرنامج تحويل مشاريع التخرج لشركات ناشئة (Upgrade.om) على سبيل المثال، ليكون نواةً حيويةً للمنظومة الحالية لريادة الأعمال واستثمار كل الموارد التي تضمن لنا أن تضيء هذه الدُرر أسواق العالم، وتبني لنفسها ولمجتمعاتنا إرثاً متكاملاً خالداً من العلم النافع، ولكن، لبلوغ هذه الغاية: أين أصدقاء رواد الابتكار في مُجتمعاتنا؟ ولعل أنشودةً من مسلسل روبن هود التي سمعناها في طفولتنا تلخص قيمة هذه المنظومة من الأصدقاء بصورةٍ أوضح:

روبن هود يمشي سعيداً في الغابات حوله الأصدقاء يمضي في عزم وثبات عيناه دوماً للسماء خلف الأعداء والأشرار.

يمشي في الغابة ليل نهار هو للأصحاب خير صديق بالحب ينور كل طريق والقوس بين يديه لا يأبه الأخطار.