كم عود ثقاب لإشعال جدار؟!

 

غسان الشهابي

إذ هدأت الموجة "الترامبية" بعد ما أثارت موجة من التناقضات غير المسبوقة في الولايات المُتَّحدة، فإنه ليس أغرب من الهجوم من قبل أنصار الرئيس المُنتهية ولايته دونالد ترامب، إلا ما حدث عشية إعلان فوزه بالرئاسة قبل أربع سنوات عندما خرج مناوئوه في مسيرات احتجاجية على انتخابه، لم تكن عنيفة، ولكن مجرد خروجها كان مُستغرباً.

بعض العرب تمسَّك بالرمق الأخير من الأمل الأخير في اللحظات الأخيرة التي يمكن أن يحدث فيها شيء ما، حتى لو كان أمراً خارقاً، يُبقي ترامب على كرسيه، وذلك – بزعمهم – حتى لا يأتي بايدن ويكرر ما فعله الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما من أفعال أشنعها تشجيع الفوضى التي أتت بـ "الربيع العربي" بدءاً من العام 2010، وهذا ما نتج عنه دمار لا يُعلم كيف يمكن أن يرمم لأنَّ الحروب في أكثر من بلد من بلاد هذا الربيع لا تزال مُستعرة، ولا أفق يبدو أنها متجهة إليه حتى الآن.

في كل ما تقدم، هناك حقٌّ في عدم الرغبة في تكرار الكثير من المشاهد التي راح ضحيتها أناس أنقياء على الأرجح، والرغبة في عدم سماع صوت طلق ناري واحد فقط في مُقابل أي دعوة للتغيير وإصلاح المنظومات القائمة.

ولكن على المستوى الشخصي، لا يُمكنني أن أصدق – للوثة في عقلي – أن مئات الآلاف من المواطنين يتظاهرون في بلد ما، وجميعهم مُغرر بهم، أو جميعهم يتلقون أموالاً خارجية مشبوهة، وجميعهم تم تجنيدهم، وجميعهم خونة ومرتهنون لجهات خارجية، وجميعهم أصحاب نزعات تخريبية، وعلى هذا يمكن استمرار التهم إلى ما لا نهاية، فليست الجماهير اليوم كما الأمس يمكن أن تعبأ بمقال صحافي، وليست الضحالة لأن يقودها خطاب حماسي، أو حتى دعوات إلكترونية على مواقع الإعلام الاجتماعي.

ما يمكن تصديقه تماماً، أن هناك بيئة حاضنة وخصبة جداً في بعض البلاد التي تجعل إنساناً (أياً كان انتماؤه ومستواه الثقافي والتعليمي والمادي) يُضحي بكل ما لديه، ويضع نفسه على شفير الهاوية لأنه "كفر" بالأوضاع الحالية، وألا سبيل لأن يتقدم، يؤمن أن مستقبله ومستقبل من سيأتي بعده أكثر حلكة وظلاماً، وأن الفساد مستشرٍ، وأن العدالة مفتقدة، وأن كرامته توطأ يومياً، وأنه كبهيمة الأنعام يأكل ويشرب ويلبس ويتكاثر ويدور في تروس الآلة الكبرى، ولكنه ليس آدمياً قادراً على التعبير عن رأيه أولاً، وقادر على التعبير عن رأيه في موطنه من دون وجل، مواطنٌ يرى أن ليست هناك "دولة" بقدر ما هي مناطق نفوذ للعرق أو الطائفة أو العائلة أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية، ومن ليس له نفوذ في هذه التشكيلات فوجوده والعدم واحد في الحسابات العامة للدولة التي لا تحفل بالأفراد لأنَّ لديها الكثير منهم!

هذه البيئات المنتشرة في أغلب الدول العربية بتفاوت في كميتها ونوعيتها وعمقها، ليست أكثر من براميل بارود وبنزين ومواد شديدة الاشتعال شديدة الانفجار لا تنتظر إلا من يُوقد عود الثقاب التافه في حجمه ووزنه ولكنه قادر على تفجير الأوضاع برمتها متى ما كانت جميع الظروف مهيأة لذلك.

هناك "خلطة سرية" تبطل مساعي أي "أوبامي" قد يصل إلى سدة الحكم في الولايات المُتحدة أو غيرها، وأقل كلفة من المزيد من العسكرة لقمع المزيد من المتظاهرين في المزيد من الحركات التي ربما تنهض ذات يوم، قوامها "العدالة" بمعناها العام والشامل، التي تحصّن المجتمعات ظاهراً وباطناً، وتجعل منه جداراً صلباً لا تجدي معه الكباريت.