الوعاء الأجوف

 

 

غسان الشهابي *

ناضلت الشعوب العربية -كغيرها من شعوب الأرض- للحصول على حقوقها لتمثيل نفسها؛ بعضها دفع أثماناً باهظة جدًّا، وبعضها دفق دماء زكية، والبعض استمرَّ نضاله سنوات طويلة ولم يثمر، وبعضها أنتج مجالس شبه صحية، وبعضها... وبعضها، لكن أكثر الثوابت أنَّ هناك مسافة غير قصيرة بين الديمقراطيات العربية وما تتعلق بأثوابه من ديمقراطيات عريقة، حيث تأبى الكثير من الأنظمة إلا أن تشير إلى أنها جزء من هذا المنظومة الديمقراطية العالمية، وهي أبعد ما تكون عنها، قولاً وفعلاً وممارسة.

استوعبت الكثير من الأنظمة العربية الدرس الأمرّ، بأن تتخلى عن سلطويتها، وترضخ "تكرّماً" للمطالب الشعبية بالديمقراطية، وانتخابات المجالس النيابية، على أن تقوم الأنظمة بمناورة واسعة تلتفّ بها على هذه العطايا بالسماح بالحياة الديمقراطية، ولكن من دون معارضة حقيقية، فيجري تجريف الحياة السياسية المدنية، ويتم الإبقاء على الأحزاب والتجمعات التي لا أنياب لها ولا مخالب، حتى لا تتكون في المجالس المنتخبة أغلبية ذات مطالب تغييرية ضاغطة، وحتى يتم ضمان إتيان المجلس ناعماً هادئاً باصماً؛ تقوم السلطات بأخذ مسافة أكثر من آمنة لمنع دخول المزعجين إلى المجالس، فنرى -عربياً- حتى أصوات المعارضين الذين كانوا في فترة ما يثيرون الإعجاب، صاروا يثيرون الضحك والسخرية لأنهم فرادى في وسط يتفرج عليهم من زملائهم، وضاقت الصدور فحتى "أسماك الزينة" هذه التي لا حول لها ولا قوة، وما وجودها في "حوض الأسماك" إلا للتجميل، ما عاد أحد يريد رؤيتها.

ويأتي الدور على الصَّوت الانتخابي، فيجري تفتيت الأصوات ما بين المناطق، فلكل منطقة مرشح، ولا يمكن للمواطن اختيار المرشح الأفضل إن لم يكن في دائرته، فعليه إما أن يذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب أفضل المتقدمين في محطيه، وإن لم يكن مقتنعاً بأحدٍ منهم، وإما أن يذهب للحفاظ على العملية الديمقراطية كمكسب، فيبطل صوته، وإما أن يقاطع الانتخابات فيمسك بيته! والغريب في الأمر أن عدداً من هذه الأنظمة تريد صوت المواطن، ولكن لمن تريده وليس لأي أحد، تريد أن تتباهى -عالميًّا- بالنسبة المتزايدة التي تقدمت للصناديق، كما تتباهى الرعاة بقطعانها التي تسير في انتظام لا تشذّ منها أية شاة.

ونظراً لغياب الكتل النيابية أو ضعفها، وسيادة الأفراد المستقلين في المجلس، فإن برامجهم شتى، ومطالبهم متعددة ومتنوعة، وتوجهاتهم متباينة، كلٌّ منهم تأبَّط مطالب أهل دائرته ليحقق منها ما يستطيع، ويحدث أن يجري تقديم مقترحات بقوانين، ولكن أغلب مشاكلها أنها ترقِّع الواقع الوطني لا تعالجه، لأنها لا ترى المشهد بأكمله، فلا توجد هناك كتل تتدارس، وتضغط من أجل تحقيق رؤية شاملة في أيٍّ من القطاعات، فيتم تمرير بعض القوانين مكافأة للنواب، ولكن دون التعرُّض للملفات الكبرى، ومواضيع الرقابة خصوصاً فيما لا يخص المجالس، وإن كانت نيابية منتخبة!

لا أحد ينتظر أن تمكِّن السلطات أي جهة تنتقص من هيمنتها، أو تقودها كما تشاء، أو أن تحاسبها على أي مستوى؛ وبالتالي فإن ما "يُترك" للناس لا يعدو وعاءً خالٍ من أي معنى، يُدعى ديمقراطية، منزوعة الدسم، منزوعة القدرة على إحداث تغيير حقيقي وجذري عميق، لإيصال الجمهور للقول بأن ليست هذه الديمقراطية التي طالبنا بها، ولا هذه هي المجالس النيابية التي حلمنا بها، وينتهي القول بالمطالبة بإغلاق هذه المجالس المكلفة، والعودة إلى أيام الصوت الواحد، فيما تقاوم السلطات هذه المطالبات الجماهيرية... يا للسخرية!

* كاتب بحريني