سماوات شحيحة

غسان الشهابي *

* كاتب بحريني

"والله إن الواتسآب أفضل من مجلس النواب".. هكذا اختزل أحدهم الواقع في لمحة ليُشير إلى التأثير الكبير والمبهج أحياناً، والمرعب أحياناً أخرى لقوى الإعلام الاجتماعي، سواء قال المتخصصون إن الواتساب سيكون من أدوات التراسل وليس من الإعلام الاجتماعي، أو يخاصمهم آخرون على اعتبار أنه تطبيق تواصلي له خصائص مختلفة ولكن يقوم بدور الإعلام بشكل أو بآخر، وندخل في هذه المتاهات، لكنها الحقيقة التي لا يمكن الإشاحة عنها.

رُبما لم يقصد كاتب العبارة "الواتساب" بذاته، لكنه ربما قصد السجع بينه وبين النواب، ولكن في الحقيقة إن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تلبي -بشكل أو بآخر- مطالب فردية أو جماعية، تلجأ إليها كثرة متكاثرة من البشر، فيما أعلم من بني جلدتي، لأنهم يشعرون أن هذه الوسيلة قد تكون أكثر تأثيراً، من اللجوء إلى النواب. ذلك أن أناساً كثيرين درجوا على أن لا يروا في النائب إلا محققاً لمطامح الناس ومطالبهم، وأن يصطف معهم في الحق والباطل، وأن يزايد على طلباتهم حتى يبقى في المقدمة، وأن يدّعي أنه حقق لهم ما يتمنون، لذا عليه أن يسابقهم في البث والتغريد، والتلويح والتهديد، ورفع العقيرة واقعيًّا وإلكترونيًّا.

الأنظمة العربية تُسهم في تمكين هذه الصورة وتعظيمها، فهي تعمل على أن تخرج النواب من سكك الرقابة والتشريع ما أمكنها، وتقودهم إلى "الخدمات" التي يؤدّونها للناس، وعلى قدر الخدمات تأتي الأصوات في الدورة المقبلة، وهذه حقيقة حاول من حاول من المترشحين الجادين في أكثر من نطاق وبلد أن يتعالوا عليها، وأن يتساموا فوقها، ولكنهم يصطدمون بأبناء وبنات دائرتهم الذين يتبرمون منهم في نهاية المطاف بقولهم: "ماذا فعل لنا؟"، لا يهم ماذا فعل للوطن فالجانب الأنوي والمنفعي هو الأكثر رسوخاً لدى الكثير من المواطنين العرب؛ فمتى ما أتى الخير الشخصي، فلا أحد سيفكر في الشأن العام، ولا في النفع العام.

ولكنَّ غالبية الأنظمة العربية اليوم تمرُّ بالأزمات المالية، فما عاد لديها من البحبوحة ما يمكنها أن تمرر بعض المكاسب لنواب الخدمات، وإن حدث ذلك مرة فإنَّ المرات التالية سيصعب تحقيق المطالب حتى الاستحالة... فماذا يفعل اليائسون من الناس في اليائسين من النواب؟ ليس لهم أن يتجاوزوهم بالرجاءات والمطالبات المباشرة من النخب الحاكمة، وتوجيه النداءات تلو النداءات، والرسائل المرئية والمسموعة، والاستعطاف، فتنزل عليهم العطايا والهبات والحلول كمطر صيف بخيل يتبخر، مكارم يضجّ بها الإعلام الرسمي، ولا يصل منها إلى طالبه -وليس شرطاً أن يكون طالبه محقاً- إلا النزر اليسير، يسبقه ذل ويتبعها أذى الإعلام الذي يعرّض به كونه "المحتاج الذي تمت مساعدته". فتاتٌ يطير مع الريح متجاوزاً مكياج الديمقراطيات الرخيص، ليزيد النواب وممثلي الشعوب بؤساً على بؤسهم؛ فترضى الجماهير بالمطر الشحيح خشية القحط، ويرون أن الواتساب... أفضل من النواب.