فرصة القرن وخمبابا

 

خالد بن الصافي الحريبي

لكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ

كما قال أبو البقاء الرندي الأندلسي في نونيته، لذا فإنَّ إتمام البشرية لحوالي قرن من الاستفادة من العمود الفقري لحياتنا وأهم مورد طاقة اقتصادي لدينا وهو النفط مُؤذن ببدء عصر نقصان قيمة النفط فيه كغلة اقتصادية تتناقص على الرغم من توفره. وتحسباً لهذا النقصان فإنَّ مُؤشرات توجهات القوى العظمى الاقتصادية تُبشر بعاصفة تغيير اقتصادي تهب على اقتصادنا بصورة خاصة واقتصاد العالم بصورة عامة، وتتبنى سياسات صافي صفر من الانبعاثات الضارة (Net zero carbon emissions) وبدأت هذه القوى بتسريع وتيرة وسم قطاع النفط بصورة عامة بأنَّه مصدر طاقة غير نظيف ومقارنته بمصادر الطاقة النظيفة المبتكرة لدى القوى العظمى، تمهيداً لتصدير هذه الطاقة النظيفة لنا بثمن غير بخس. ولأنَّ ملحمة التدافع بين الاقتصاد الصديق للطبيعة والاقتصاد المبني على الصناعات التحويلية غير الصديقة للبيئة قديمة قدم الأزل، كما سنرى في قصة خمبابا، فإنِّه من المهم سبر غور آخر تطورات هذا التدافع. فبعد حوالي قرن من تربع النفط والغاز، عمود اقتصادنا الفقري، على عرش الصناعات حول العالم لأوَّل مرة تعتبر الطاقة النظيفة والتغير المناخي فرصة القرن الجديد والقرون المُقبلة، حسب تصريح للرئيس الأمريكي المنتخب الـ٤٦ جو بايدن، الذي كان بالمُناسبة مسؤولاً عن ملف العراق في عهد الرئيس الأسبق أوباما، إيذاناً بغروب تدريجي لعصر النفط وبزوغ لا رجعة فيه لعصر تنويع الاقتصاد العالمي لاستثماراته في بدائل بعيدة عن طاقة النفط والغاز. بل إنَّ أولويات إدارة بايدن-هاريس الانتقالية تُعرِف الطاقة النظيفة، من شمس ورياح ومُحيطات ومياه وغيرها، والتغير المناخي بأنها ليست مسألة بيئية فحسب بل مسألة أمن قومي تمس أيضًا قطاعات الطاقة والصحة وتنمية المجتمع والابتكار التكنولوجي. لذا فإنِّها خصصت لملف التغير المناخي الذي يقوده السياسي المخضرم ووزير الخارجية الأسبق جون كيري، خمبابا العصر الحديث، ما لا يقل عن حوالي تريليوني دولار للمساهمة في خلق ١٠ ملايين وظيفة على الأقل في قطاع الطاقة النظيفة وتحقيق نسبة صفر انبعاثات ضارة بحلول العام ٢٠٥٠. ولذلك من المُهم لنا من باب التعزيز أمننا الاقتصادي التعرف على مجالات الاستثمار الـ٩ التي ستركز القوى الاقتصادية العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية استثماراتها في هذا الملف بداية من العام ٢٠٢١ وصلتها بتعزيز مصالحنا المستدامة إن تمكنا من تكييف فحواها:

أولاً، البنية الأساسية: وهنا سيتم تركيز الاستثمارات في شبكات النطاق العريض والطاقة الكهربائية والمساحات الخضراء والمنشآت التي تضمن الوصول للهواء النقي والمياه النظيفة. وهذا يُبين لنا تطور ما يغذي دورة ثروات وحضارات الأمم والعمران البشري من شريان الحياة والتجارة من الربط بين البشر والبضائع والأسواق عبر النقل إلى ريان حياة يربطنا أيضًا بالبيانات والطاقة النظيفة. 

ثانياً، صناعة المركبات: وتهدف إلى المساهمة في خلق مليون وظيفة جديدة على الأقل بالإضافة إلى ما نسميه في السلطنة بفرص القيمة المحلية المضافة من تدريب الكفاءات الوطنية وشراء المنتجات والخدمات المحلية. إن إعادة تقييم تجربتنا الحالية في القيمة المحلية المضافة هي انتشالها من وضع كونها مجرد واجهة دعائية جديدة تغطي على تجارة مستترة في قطاع الطاقة لرافد حقيقي لخلق القيمة المحلية المضافة بكل معنى الكلمة.

ثالثا، النقل: أو الاستثمار في وسائل التنقل التي تحد من الانبعاثات الضارة من قطارات وحافلات ودراجات وأرصفة ومعابر مشاة متصلة. جدير بالذكر أن التحول لمنظومة مدن ذكية أكثر فهماً لتطلعاتنا الصحية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية يمر عبر الاستثمار في وسائل التنقل الذكية، الفردية منها كمسارات المشاة والجماعية كالقطار اللولبي أو الهايبرلوب.

رابعاً، قطاع الطاقة: أي الاستثمار في إنتاج طاقة كهربائية تسهم في خلق الملايين من الوظائف المحلية ولا تنتج أي انبعاثات كربونية بحلول العام ٢٠٣٥. إن استثمارات منطقتنا بصورة عامة على مدى ستة عقود أوصلتنا إلى وضع لا نُحسد عليه- قطاع نفط وغاز لا رؤيته ولا تخطيطه ولا حوكمته ولا بناؤه لرأس مال بشري منتج وبعيد النظر ترقى لتطلعات الإنسان.

خامساً، المنشآت: ويشمل الاستثمار في تحصين ٦ مليون مبنى وبيت ضد الأنواء المناخية مبنية على أفضل ممارسات كفاءة الطاقة، مما يسهم في تخفيض قيمة الفواتير وخلق ما لا يقل عن مليون وظيفة خلال ٤ أعوام. إنَّ من شأن مثل هذا التخطيط السليم أن يقي مجتمعاتنا أي نوائب للأنواء المناخية، لا قدَّر الله، التي أصبحت أكثر تكرارا منذ إعصار جونو في العام 2007.

سادساً، الإسكان:  بناء ١.٥ مليون بيت ووحدات سكنية مستدامة. وذلك لأنَّ المسكن أهم احتياج للإنسان وأصبح من المفيد تبني الأساليب العصرية في بناء مساكن تتناسب مع بيئتنا المحلية وأقل كلفة وأطول عمراً وأقل إهلاكاً للطاقة والأصول المادية.

سابعا، الابتكار: الاستثمار في توطين كل التقنيات الناشئة التي تخفض من قيمة إنتاج الطاقة النظيفة، وتشمل بطاريات تخزين الطاقة وتقنيات تحسين الانبعاثات ومواد البناء الصديقة للبيئة وطاقة الهيدروجين المُتجددة والطاقة النووية المتقدمة. وهنا آن الأوان لكل الإنسانية أن تتبنى بناء رأس مال بشري قادر على الابتكار في التقنيات الناشئة كأولوية استثمارية لا تطالها يد التقشف أو التوازن المالي، لأنَّ عدم تمكن أيِّ مجتمع من وضع الاستثمار في كفاءات التقنيات الناشئة كأولوية ستعيش أجياله المقبلة كمواطنين في مستعمرة بيانات (Data Colonies).

ثامناً، الزراعة وصون الطبيعة: ويهدف الاستثمار هنا إلى المساهمة في خلق ما لا يقل عن ربع مليون وظيفة في مجال الزراعة الذكية وصون البيئة وإعادة تأهيل حقول النفط والغاز ومناجم التعدين المستخدمة بصورة صديقة للبيئة. ومن شأن الاستثمار في هذه الجوانب أن يربط موارد الرزق الأصيلة هذه بمصادر الرزق المعاصرة.

تاسعاً، العدالة البيئية:  وتعني الاستثمار في برامج تضمن أن لا تُلحِق الأنشطة الاقتصادية ضرراً أو أضرارا بالإنسان أو أي مخلوق بصورة عامة. وفي الأثر يروى أنَّ الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال "لو عثرت بغلة في العراق، لخفت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟"

 

خمبابا

 

الأقلام التي بيد قوى الذي غلبوا على أمرهم لا تنصف الأبطال المُخلصين، غالباً. ومن هؤلاء الأبطال شخصية منسية تذكرنا بحضارة بلاد الرافدين اسمها خمبابا، صاحب أطول قصة في ملحمة كلكامش. وحضارة بلاد الرافدين ليست فقط مهد حضارات وديانات العالم القديم بل أيضاً حاضنة أول رسالات الإنسانية وثقناها كبشر لأوَّل حضارة دفع الناس فيها بعضهم البعض وانتقلوا من حياة الكهوف إلى الرعي والصيد وجمع ثمار خيرات الأرض وإلى تأسيس أول كيانات عرفتها البشرية مبنية على الري والزراعة من مدن ودويلات وممالك وإمبراطوريات عرفها العالم، تزامناً مع الحضارة الفرعونية القديمة. وفي هذه الصدد، لا يصلح أبداً ما نراه أحيانا من اختزال لحضارة العراق العظيمة في حرب أحد رؤسائه السابقين مع جارته إيران أو عدوانه الغاشم على الكويت الحبيبة. ولا يبالغ أبداً من يقع في حب أول نص أدبي وثقه البشر ولا يزال إلى يومنا هذا يملؤنا دهشة وتشويقاً وأسى وأملاً كُتب في حضارة الرافدين العظيمة. إذ يحكي لنا هذا النص المعروف بملحمة كلكامش قصة أول حضارة نقلت إلينا الكتابة الحضارة السومرية، وأحد ملوكها الذي حمل أمانة الاستخلاف في الأرض وبدأ حكمه ظلوماً جهولاً يسوم مواطنيه وإخوته في البشرية في مدينة أوروك (الوركاء حالياً) سوء العذاب ولم يرعاهم حتى كرعية بل كقطيع. وتسرد الملحمة كيف أنَّ أهل أوروك ابتهلوا إلى القوى السماوية العظمى لترأف بهم، فما كان من هذه القوى إلا أن أرسلت إنكيدو وهو بطل من أبناء الطبيعة المدافعين عن المظلومين من كل المخلوقات مدَنته كاهنة فاتنة ليقارع بطل الملحمة الملك كلكامش. ولكن بعد أن يتصارع البطلان تعجبهما قوتيهما ويقرران البحث معاً عن اصطناع أمجاد خالدة بدون الأخذ بعين الاعتبار الاستدامة واحترام الطبيعة. وكعادة ملوك وحكام مطلقين في العصور الغابرة ما لبث الملك إلا أن قرر معارضة مشورة صديقه إنكيدو البدائي ابن الطبيعة المتمدن ومشورة مستشاريه بأن يقطع أشجار غابات الأرز (لبنان) ليصطنع بوابة عظيمة لم ير لها مثيل، مع أن هذا يعني مُواجهة حامي الطبيعة المارد المهيب خمبابا، الحارس المعين من قبل القوى السماوية العظمى على السهول والجبال والأشجار والمياه. وينطلق بطلا الملحمة الملك كلكامش وإنكيدو مبيتين نية العدوان وترتعد فرائصها من صوت خمبابا المرعب، ولكن كما هو الحال دائماً تدخل القوى العظمى، شمس في هذه الحالة، يقلب الموازين وبعد شد وجذب ومحاولات مستميتة من خمبابا لتأنيب إنكيدو لخيانته للطبيعة تذهب توسلات خمبابا أدراج الرياح ويحتز الملك كلكامش رأسه ويحمله قافلاً إلى أوروك مع كل ما استطاع اصطحابه من الأشجار. وتنتهي القصة بعد تمكُن نشوة النصر والكِبر من نفسي البطلين كلكامش وإنكيدو، بل ويرفض كلكامش تقرُب عشتار القوة العظمى السماوية للحب والجمال والعدالة منه، ويقتلان معا مخلوقا سماويا ثانيا أرسلته عشتار انتقاماً، مما يحدو بقوى السماء العظمى أن تصيب إنكيدو بمرض يودي بحياته مما يُودي بعقل رفيق دربه الملك كلكامش. وتنتهي الملحمة بأن يقضي الملك كلكامش ردحاً من الزمن باحثاً عن معنى الحياة ويُضيَع سر الخلود الذي حصل عليه في دلمون الجميلة (البحرين) بنصيحة من شخصية تشبه قصتها قصة سيدنا نوح عليه السلام، وينتهي به الأمر يحاور طيف رفيق دربه الميت عن العالم السفلي. ومن قوة تأثير هذه الملحمة فقد تبنتها إمبراطوريات الرافدين اللاحقة الآكادية والآشورية والبابلية واقتبسها قادة الإغريق والرومان والفرس. وعلى الرغم من أنَّها خلدت كلكامش وإنكيدو وتغافلت عن خمبابا إلا أنَّ مغزى ملحمة التدافع بينهما واضح- الاستخلاف في الأرض أمانة عظيمة لا يلقَاها ويخلد اسمه إلا ذي الذِكر الطيب المُؤمن بأنَّ لكل شيء إذا ما تم نقصان.

تقول الشابة الجميلة سيدوري للملك كلكامش في رحلته الشاقة بحثا عن معنى الحياة وسر الخلود، ما معناه:

وإلى أين ستوصلك كل هذه العجلة يا كلكامش!؟ قُضي الأمر السماء كتبت لنفسها الخلود وأتاحت للإنسان السعي لطيب العيش فاملأ روحك بما لذَّ وطاب، وروِح عن قلبك، والبس كل ما هو حسن، واسبح في عذب المياه، واسعَد بضم ولدك إليك بحنان، واسعِد زوجك بحضن وشغف، فارضَ بقدَرك أيها الإنسان فإنك لا محالة فانٍ.