من التأتأة إلى الثرثرة

عبدالله الفارسي

في صيف العام 1985 كنت آنئذٍ في الصف الثاني الثانوي، وذات نهار رافقت صديقي اللصيق والذي سأكتب لكم مقالا منفصلا حول حواري معه بعد سنوات من الفرقة والانقطاع، ادخلني بيت أحد أقاربه فرأيت مكتبة صغيرة في منتصف المجلس فيها مجموعة كتب دينية وتفاسير ضخمة فوقعت عيني على كتاب صغير كان نائماً بين تلك التفاسير كأنه طفل رضيع.

لم يسبق أن رأيت مكتبة منزلية من قبل باستثناء تلك المكتبة التي في مدرستنا، فسحبت الكتاب فإذا هو رواية لنجيب محفوظ بعنوان "ثرثرة فوق النيل"، فلفت نظري العنوان وفرقع مُخيلتي فأنا كنت صموتا وخجولاً ومصطلح الثرثرة في تلك المرحلة من عمري لم يكن سهل الهضم ولا يُسير الاستيعاب، أمسكت الكتاب وجلست أتأمل العنوان كأنه رسمة غريبة أو لوحة زيتية فريدة، فدخل علينا صاحب البيت وحين رآني ماسكاً بالرواية بطريقة غريبة قال لي: "خذها إنِّها لك لكنها صعبة عليك لن تفهمها بسهولة".

شعرت بسعادة غامرة، فقد كان أوَّل كتاب احصل عليه في حياتي بمحض الصدفة، ذهبت إلى عريشة من السعف ساكنة على شاطئ البحر كانت ملاذا للصيادين من قبضة النهار وغضبة الشمس، وحجزتها على حسابي في ذلك النهار وبعض النهارات التالية/ وبدأت أتعلم الثرثرة على البحر من ثرثرة نجيب محفوظ التي فوق النيل. كانت الرواية تحدياً كبيراً لعقلي الصغير وروحي الغضة، لكن هذه الرواية فجَّرت كل ينابيعي المغلقة .. وأطلقت كل أجنحتي المهيضة.. وفتحت كل أبواب عقلي المؤصدة. قرأت الرواية أربع مرات ولم أفهم منها شيئاً ولكن تسرَّب إلى روحي مفهوم جديد غير مألوف لي وهو أنَّ العقل كائن حي، إما أن يتغذى ويأكل ويعيش من الكتب أو يحرم من طعامه فيموت ويجمد ويندثر.

وصلت إلى الصفحة الأخيرة في الرواية والتي كان مدون فيها "أهم روايات المُؤلف"؛ إذ هالني ذلك الكم الهائل من الروايات التي كتبها هذا الرجل الضعيف ذي العينين الجاحظتين والنظارة الكبيرة والتي تحتل نصف وجه، فعرفت بأنَّ هذا الرجل هو عميد الرواية العربية، وتيقنت لحظتئذ بأنه لن يتكرر أبدًا.

في الصيف التالي سألت عن الشباب الذين يدرسون في مصر، حتى عرفت أحدهم وتواصلت معه، ورجوته أن يحضر لي كل روايات نجيب محفوظ، فبعت دراجتي وسنارتي وطاقيتي وكاميرتي، وبعض أغراضي، ووفرت كل بيسة حارماً نفسي من شرب زجاجة بيبسي طوال سنة كاملة، فجمعت مبلغ 50 ريالاً، مبلغ هائل وثروة كبيرة حسب قيمة العملة في العام 1986.

سلمت المبلغ للشاب المتَّجه إلى مصر للدراسة، وجلست انتظر عودته بفارغ الصبر، وكنت انتظر وصول روايات نجيب محفوظ كصحراء قاحلة تنتظر المطر، كقرية يابسة يائسة تنتظر القطر والغيث والسيل والحياة.

كم هو شعور مُؤلم وقاس حين تكون عاشقا مغرما بالكتب في مدينة بدون كتب، وفي مُجتمع لا يتقن القراءة؟!

وجاءت إجازة نصف العام الدراسي وعاد المُسافر المنتظر إلى الوطن فأرسل إلى بيتنا صندوقاً مغلقاً بلاصق متين، كتب في أحد جوانبه "إلى عبدالله جمعة الفارسي"، كنت في تلك اللحظة خارج البيت، وحين عدت إلى البيت رأيت صندوقاً غريباً مركوناً على جانب غرفة أمي، كنت أحسبه صندوقاً من صناديق أمي الكثيرة، وكان مسنودا على الجدار وكانت الكتابة على جهة الجدار فلم أرها. مرَّ اليوم الأول والثاني والثالث والصندوق لم يتحرك من مكانه، فليس من طبيعة صناديق أمي أن تكون جامدة ثابتة لا تتحرك، كانت صناديق أمي دائمة الحركة دائمة التنقل، تكره الثبات والاستقرار.

فسألت أمي: لمن هذا الصندوق؟ فانتبهت وضحكت ضحكتها الملائكية التي تُنير ظلمات الأزمنة وتضيء فضاءات الأكوان.. وقالت: هذا الصندوق لك ونسيت أن أخبرك. فقفزت عليه كحيوان مُفترس، فإذا بداخله اثنتين وثلاثين رواية من روائع نجيب محفوظ.

كان عيدًا بالنسبة لي عيد لا مثيل له، وكان الصباح الثاني أجمل صباحاتي التي أشرقت فيها الشمس، حملت صندوقي إلى مجلسنا والذي يُعتبر غرفة لي، ووضعت الكتب فوق طاولتي، وصففتها بترتيب متسلسل حسب تاريخ إصدار كل رواية.

وبدأت في قراءة الرواية الأولى، كانت لها رائحة كرائحة الأرض بعد ليلة ماطرة، بينما كانت الرواية التالية تحمل رائحة أنثى تشتهي النوم والعراك والعناق! أما الثالثة فكانت تحمل رائحة الغرام بطعم الخيانة الممزوجة بنكهة الخسة والسقوط.

يالها من روائح غريبة لعوالم عجيبة لم يسبق لطائرتي الورقية أن حلقت في أجوائها .. فعصفت بها الريح وأمطرتها بالصواعق فغسل جناحيها ضباب السحب وطهر قلبها رضاب السماء.

وخلال شهرين فقط انهيت كل الروايات، والغريبة أنني لم أرتوِ بل شعرت بعطش شديد لروايات أخرى وكتب جديدة ورائح جديدة ومثيرة. ومنذ ذلك الصيف البعيد وأنا أبحث عن الكتب الجميلة لأتعلم الثرثرة بمهارة كبيرة.

الشيء الذي لا يعرفه أحد عني أنني كنت أعاني من التاتأة بشكل غير عادي، وبصورة مُثيرة للضحك. كان ينقطع نفسي قبل أن أكمل عبارة أو جملة فأتوقف عاجزا أمام مًحدثي، فيكافأني أغلب الحاضرين بالضحك والسخرية ويمنحني بعضهم العطف والشفقة.

لذلك كنت اتجنب المواجهات اللفظية في مرحلة طفولتي الدراسية، ولكن سقوطي في براثن القراءة منحني رصيداً كبيراً من الأنفاس .. وعبرت بي الكتب إلى بر الجرأة وألقت بي على شواطئ الأمان. فحين طرقت أبواب الجامعة كنت قد تخلصت تماماً من التأتأة وبدأت أجيد النقاش والثرثرة.

لدرجة أنني كنت نداً عنيدًا لبعض أساتذتي العرب الذين يعتبرون أنفسهم أساتذة الحكمة وأرباب المعرفة، فالعرب كعادتهم لا يعترفون بالهزيمة وتأخذهم العزة بالإثم.

لذا بعضهم تفاجأ من هذا الطالب الضئيل المزعج، فعاقبوني بالطريقة التقليدية وهي طريقة عقاب الأستاذ للطالب وبعضهم اعترف بي كطالب جدير بالنقاش مُؤهل للمواجهة والنزال، فتصالح معي وبصم شاكرا على عقلي. لقد ناطحتهم طوال أربع سنوات كثور عنيد حتى كسرت قروني فكسبت عقلي وخسرت كل شيء سواه.