اللوحة حديث الروح

 

جيهان رافع

الفن حياة والحياة ألوان تختلف بهجتها أو حزنها باختلاف تجاربنا ومُمارستنا لهذه الحياة والفن يصنع اللوحة والروح تصنع مساحةً من ألوانٍ تتهادى على أمواج الحب والتجارب فتعانق الرسائل الضوئية لتمتد على مسافة الظل ووجع الروح فتهدينا الفرح والجمال المرئي لصناعة الفن من ريشةٍ يخطف الوقت منها عرَق الأنين ويُسقطه نورًا على وجوه أحبَّت رحلة الفن وتابعت تجلياته بشغفٍ مملوء بالحب والهدوء والجمال الروحي.

إنّ التجارب الحياتية اليومية واندماج الثقافات وتفتح براعم التطور والتقدم لبيئة ومكان الفنان وهي المعلم الأساسي له لكي ينقل ما يجوب في ذاكرته وخاطره من الريشة إلى العالم مصحوبة تلك التجارب ببعض الجرأة والتميز حتى لا تتقوقع على ذاتها وتصبح فردية مملة ذات طابع حزين دائمًا أو غاضب أو مرح فذلك سيفقد الفنان بصمته وتطوره.

قال فينسنت فان غوخ: "إذا سمعت صوتًا بداخلك أنك لا تستطيع الرسم فهذا يعني ارسم".

اللوحة تُنادي على من سيمنحها الحياة ولا يترك مساحتها بيضاء بل سيترك ألوان روحه البيضاء ومشاعره النقية عليها ألوانًا تحاكي زمنًا ما أو مكانًا ما. وهناك مثل إيطالي يقول: "نستطيع أن نرسم زهرة لكن من أين نأتي بالرائحة؟". وذلك يعني الكثير لنا لكن إذا أردنا لهذه الزهرة حياة كريمة لا تنتهي بالعطش سنرويها بجمال اللون فتفوح رائحتها الزكية وإن كانت على لوحة فقط.

كل طفل يكمن في داخله شغف اللوحة والرسم والألوان لكن ما البيئة وما الحياة التي تجعل ذلك الشغف يتطور ويصنع منه فناناً عندما يكبر؟ ذلك السؤال له دلالات وإجابات عدّة لا تُحصى في بوح قلم ولا في فرد المشاعر التي تعتري كل منِّا عندما نطمح وتوجهنا الحياة بتيارٍ عكس ما تشتهي سفن طموحاتنا، أيضًا لنا من القدر مسيرة لا نعلم كيف نسير بها وبأي اتجاه ستأخذنا، كتبت في الماضي قصة قصيرة عن الفنان ومُعاناته بين أحاسيسه وواقعه تدور أحداثها مع أحاسيس الكاتب ومعاناته مع واقع قُدِرَ عليه وأود أن أضعها بين أيديكم في هذا المقال الذي أريد له الحديث عن الحياة الفنية الواقعية مدمجة مع التجارب والكتابة.

لوحة حبّ  

من باب غرفته دخانه الكثيف وصوت سعاله ينتشران كعطر انتظاره، حركات الشوق المُملة تنخفض مع رأسه لتطل على الشارع ثم تبتعد فيبدو كسحابة دخانه كضباب صباحه الماطر بالرغبة، نور الذي صادف عيد ميلاده الخامس والأربعين يوم قدومها إلى مركز التجميل المُقابل للهفته هي قصدت العمل وتقصد ضياعه القدر، مبعثر ميلاده هذا جسده المتوسط الطول يقف عند النافذة بشعره المُبعثر ووجهه المأخوذ إلى عنوة الدهشة يضع يداً في جيب سراويله القصير حيث يتهدل فوق خصره قميص قديم من القطن ويحمل بيده الثانية ريشة وسيجارة معاً، وكلما نظر إلى المنبه المنسي على طاولته الصغيرة في أقصى زاوية في الغرفة تراكم على نظرته غبار الوقت غير المحسوب سابقاً بالنسبة له، فيقوم ببل الريشة بشكل وهمي في الهواء وهي المُمتنعة في هذا الصباح عن حمل أي لون، ليبدأ بالرسم على الشباك شكل امرأته، السيجارة مشتعلة بين أصابعه يحاول السحب منها ليظهر جليّاً ارتباكه كيف سيصل لعقبها دون أن يخطئ بينها وبين الريشة يرتسم على وجهه الذي تلون بسمرةٍ خفيفة الظل، والشيب يتقن اختيار الأماكن في لحيته، نظر إلى الريشة ونفث في وجهها سحب سيجارته ووهم انتظاره مبتسماً لبقايا صبره، وزّع النظرات على لوحاته المرمية هنا وهناك وأعقاب سجائره على الأرض ثم تسمرت عينيه على لوحة لامرأة ما زالت خيالاً، يعجز عن إزالتها من رأس أولوياته في ترتيب لوحاته لافتتاح المعرض المشترك له، لن تأتي اليوم، غمغم بتلك الكلمات، حيث كانت هي تكمل روايتها خلف قضبان الواقع هاربةً إلى الأحلام، لخيالها المغبر، تصنع لقاءً خالياً من الحقيقة بشابٍ يحفر رسمه على صفحات قلبها وينحت من وجودها صخرة حبٍ لا تهزّها عواصف الملل والاعتياد، كانت تأتي إلى بطل روايتها كل مساء، تتسلل من ثقوب أبواب طلاقها، التي أوصدتها عليها قسوة الأحكام المسبقة الألم، لكن هذا الصباح قررت أن تلتقيه على سطور مشمسة ماطرة الإحساس عطشة لبلل الحبّ، تركت طفليها في أزقة وحدتها، أكملت كتابة بعض التفاصيل، وأغلقت الورق على نسمة تجعل من أوراق عمرها تتراقص على ثوب اقتراب موعد معرض الرسم، الذي دعاها إليه صديقها الافتراضي جاد، وقفت على غيمة دهشتها، أمام لوحة تشبهها، فاقترب نور مدفوعاً برياح الشغف، يعلو صوت وحيه بوجع المُصادفة، ها أنتِ تقفين أمام ما قالت ريشتي بكِ، تقفين أمام أشياء منك لم تقوليها أنتِ عنكِ، تلعثمت نظراتها حين سقوطها في بحر عينيه، فأكملت الغرق لغة نبضها تغمغم في داخلها: ها أنا أملك الزمن فيتجه إلى قبلتك دربي، هذه روحي تطلّ منك أظنّها ستغرق الكون في روايتي، لكنني لا أتقن لغة الماء في عزّ عطشي، فهل سيتركني الغيم أبلل شَعري بلسمة من يديك، استيقظ رمادها في اتصال ابنتها المريضة، وعلى اهتزاز حلمه عندما لامست يد زوجته كتفه، تخبره برغبة أحد الصحفيين بحواره.

الصحف تكتب ما لا نعيشه، والحياة ترسم لنا بأناقةٍ ما نخاف الوصول إليه، درب النهاية.