حامل المسك ونافخ الكير ومستر فرايدي

خالد بن الصافي الحريبي

قد لا تكون هناك حكمة سمعناها صغاراً أكثر نفعاً لنا اليوم من "قل لي من تُصاحب أقل لك من أنت"، وذلك نظراً للتطورات والمصالح والتحالفات المُتجددة التي يشهدها العالم ومنطقتنا بصورة خاصة، وما يُصاحبها من ود مُتقلب حيثما مالت الرياح يميل. ولذلك فإنَّ من الأهمية بمكان أن يتمسك الإنسان بعرى وثقى لا انفصام لها تُبين له الرشد من الغي فيما يتعلق باصطفاء الجلساء. وفي هذا الصدد يُنير لنا هدي الحبيب المصطفى النَّبِيَّ ﷺ  الذي قَالَ:" إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً. رواه أَبي موسى الأَشعَرِيِّ، متفقٌ عَلَيهِ. ولأنَّ منطقتنا حباها الله بنعمة أن تكون واسطة عقد العالم موقعاً واقتصاديا ودينيا يتردد علينا ضيوف جلساء يخطبون ودنا من كل حدب وصوب. وبما أنه عالمياً كلما مرت المجتمعات الصناعية العظمى بنقص في الأنفس والأموال والثمرات فإنها تيمم وجهها شطر منطقتنا لأنها ترى فينا معينا لا ينضب من الخيرات والثروات الطبيعية التي هم أحق بها، لافتراض أغلب صانعي القرار لديهم أننا ليس لدينا الفكر والعلم والكفاءات لإحسان الاستفادة من مواردنا، أو كما قال أبي مسلم الخراساني: ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد. ومما يمهد لهذا التوجه القديم المتجدد للقوى العظمى هو أنه أول فريق تشكل ضمن الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس الـ٤٦ المنتخب جو بايدن هو الفريق الاقتصادي، سابقاً بذلك فرق ديوان البيت الأبيض والصحة والإعلام والتعليم والإسكان والمواصلات والتجارة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والدفاع والأمن.  وبينما ستنشغل كل هذه الفرق بإطفاء تركة ثقيلة من حرائق الشأن الاقتصادي الداخلي في أمريكا فإنِّه ستعود عاجلا أو آجلا لعادتها القديمة في تحسين اقتصاده بأسلوب أيسر، إرسال كبار مسؤوليه للترويج لصفقات بمُسميات مختلفة مع دول المنطقة، وسيكون لنا دور يتيم أوحد في هذه الصفقات: الدفع. والواقع يقول إنه بين زوارنا من الضيوف والشخصيات العالمية المُؤثرة في مراكز صناعة القرار ذات الصلة بحاضر الإنسانية ومستقبلها يظل السؤال الأهم هو: كيف نعرف الجليس الصالح من جليس السوء؟

حامل المسك

لا يوجد أنفع للمُجتمع من إنسان يحذيه اجتهاده المخلص لرص عمرانه تغذية أو اجتماعيا أو روحانيا أو معرفيا أو اقتصاديا أو أمنيا أو فنيا، وذلك لأنه لا يوجد في التاريخ أمة بنت مجدها بناءً على غاية التوازن المالي دون أن يصحبه الابتكار في تحقيق تقدم في عمران المجالات الأخرى. وقد حظيت مختلف الحضارات ومن حضارات منطقتنا بحاملي مسك ساهموا في رقيها عبر العصور على اختلاف مشاربهم. وبما أننا نشهد عصر الاقتصاد المبني على المعرفة والبيانات والتقنيات الناشئة أو ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة فإنَّ الإدارة الأمريكية الجديدة ومعها القوى العظمى في حرب لاستقطاب الكفاءات، وسيزداد تنافسها مع دول منطقتنا في استقطاب عقول من مصادر وبلدان جديدة كإيران وإندونيسيا نظراً لاستنزافها للعقول من الصين والهند وباكستان ودول وطننا العربي خلال العقود الماضية. وذلك لأنَّ المجتمعات المتقدمة هي التي تستقطب العلماء الذين يسهمون في  بناء الحضارات، مهما كانت خلفيتهم فمن العلماء على سبيل المثال يُذكر موسى بن ميمون الذي عاصر دولة الموحدين في الأندلس وحُكم الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في مصر العظيمة وبلاد الشام. كما يذكر في عصرنا هذا الأستاذ الدكتور يوفال نوح هراري وهو مُؤرخ ألف ثلاثة كتب استطاعت خلال بضعة أعوام أن تُؤثر في توجهات القوى العظمى ليس فيما يتعلق باقتصاد المعرفة فقط بل في مصير تأثير ذلك على مصيرنا كبشر. ففي كتابه "الإنسان العاقل Sapiens"  يروي قصة تطورنا بنيانا وفكرا وسياسة كبشر واستطاعة جيلنا كبشر أكثر من الأجيال الماضية، إلى حد ما، السيطرة على ثلاثة أعداء للبشرية: الجوع والفقر والمرض. وفي كتابه "الإنسان الخارق Homo Deus"  يبين أنَّ الغلبة الآن في المستقبل للأمم التي تفلح في بناء اقتصاد مبني على البيانات بينما تتحول الأمم الأخرى إلى مستعمرات بيانات. أما في كتابه الآخر فيتحدث عن ٢١ عبرة تتناسب مع قرننا الحادي والعشرين. لذا فإنِّه حري بنا تضمين خارطة طريقنا لنهضة متجددة استقطاب الجلساء من المفكرين والمبتكرين الذين يثرون خطط تنفيذ رؤانا ويعينون على أمانة استخلافه في هذه الأرض الطيبة وينتج عن أعمالهم الخير والعلم النافع من غذاء وبناء ومعرفة وأدوية وترويح قلوب.

نافخ الكير

بالمُقابل لا تبلى المجتمعات بأخطر من جلساء السوء الذين يهلكون الحرث والنسل ويفسدون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ومن أهم مسؤولياتنا الإنسانية المشتركة التعامل بفعالية وذكاء مع قرون من المناهج التعليمية في الدول العظمى التي تغذي فكرة أنَّ منطقتنا مصدر للشرور في العالم. ولا يُوجد شخصية توضح خطورة تأثر ثقافات الأمم بهذا الفكر الخاطئ عنَّا من جاريد كوشنر صهر وكبير مستشاري الرئيس الأمريكي الـ٤٥ المنتهية ولايته والمطور العقاري الملياردير شخصية برزت على مسرح السياسة الخارجية الأمريكية وهو شخصية تستحق الدراسة، ولن يبرح منطقتنا حتى يبلغ مآربه الاقتصادية في الإثراء أو العقائدية في إخضاع كافة دول المنطقة بمنطق القوة. ويحسب له أنَّه خلال أربعة أعوام فقط استطاع عقد صفقات لم يستطع منتقدوه أن يعقدوها وما اسطاعوا لها نقضاً، ومنها صفقة قرن لا تعدو كونها صفقة تطوير عقاري تكرس حلم إسرائيل الكبرى مُقابل دراهم معدودة وكان في حقوق أصحاب الأرض من الزاهدين. وأردف هذه الصفقة باتفاق إبراهامي، يزعم صلة بفكر سيدنا إبراهيم عليه السلام بينما لم تثبت في كل الكتب التاريخية والدينية أنه كان رسولا للتوحيد وللحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والمنطق والعقلانية والتحية في سبيل الإيمان ولا يوجد في أثره أن له أي صلة بعقد صفقات أسلحة دمار. ولن يطول الأمر بالإدارة الأمريكية الجديدة، التي تشغل فيها قيادية سابقة في الادعاء العام منصب نائبة الرئيس، قبل أن تبدأ بالتحقيق مع أيِّ جهة أو حكومة وقعت على الصفقات العامة والخاصة ذات الصلة بجاريد كوشنر تمهيداً لتداولها في المحاكم الأمريكية، عاجلاً أو آجلاً. لذا فإننا أمام خيارات واضحة، بين استقطاب علماء وجلساء صالحين وبين جلساء يجبرون أجهزتنا المناط بها استثمار المال العام في حاضرنا ومستقبلنا على الاستثمار في عقارات ديونها ليس لها أول من آخر، على سبيل المثال استثمار أجهزة الاستثمار في أربع دول شقيقة وصديقة على الأقل في عقارات أحد ملاكها هو جاريد كوشنر منها البناية رقم ٦٦٦ في مانهاتن نيويورك وبناية أخرى في شيكاغو بما لا يقل عن مليار ونصف المليار دولار. إنَّ الجليس الصالح بين وجليس السوء بين وبينهم جلساء قد نشتبه بهم ونظرا لتطلعات الحاضر والمستقبل فلا مجال لأي جليس لا يكن لنا الود مهما كان اسم صفقته.

مستر فرايدي

الكويت الحبيبة أهدت الإنسانية ككل ووطننا العربي على الأخص بعض أهم الأعمال الفنية خلال العقود الماضية. بعض هذه الأعمال توضح لنا أن سبيل الخلاص من جلساء السوء نافخي الكير هو التخلص من عقلية جسدتها شخصيات في عمل فني هادف عمره ٤٠ عامًا واسم هذا العمل الخالد مسرحية "باي باي لندن". في هذه المسرحية يلعب الفنان المرحوم عبدالحسين عبدالرضا دور شارد بن جمعة أو المستر فرايدي ويلعب الفنان المرحوم غانم الصالح دور نهاش فتى الجبل والفيافي والقفار دور فكاهي نمطي لزائرين طيبين وثريين للندن من الخليج العربي. وعلى ذكر التطوير العقاري والفنادق ففي مشهد يقول فيه المستر فرايدي بلغة إنجليزية بسيطة لفتيات في فندق "يو درينك..مي موني YOU drink..ME money"   ولا يُمكنني التفكير في عبارة أبلغ من هذه تفسر لنا أنَّ المجتمعات التي تُبدد ثرواتها لإرضاء مكر نافخي الكير الذين لا يراعون فينا لا إلا ولا ذمة ولا يرون فينا إلا مصدرا لثرائهم غير المشروع في بلدانهم أو سطورا في مذكراتهم أو أكباش فداء في قضاياهم لن تلبي تطلعات الرؤى المنشودة. وما أشبه نافخي كير البارحة بنافخي كير اليوم، البارحة سقاهم المستر فرايدي في الفندق واليوم نسقيهم في صفقات لا تتوافق مع رؤى الإنسانية، ولأنَّ التجربة خير برهان فإنَّ منطقتنا والحمدلله اعتبرت واستفادت من دروس الصفقات ومُقبلة على خارطة طريق تقودنا لنهضة متجددة ولله الحمد والمنة.