أزمات الدروس العصيَّة

 

غسان الشهابي

عندما ألحَّ عليَّ قبل أيام هاتفٌ بدأ فتح خطِّه بأنه آتٍ من بلاد بعيدة، تركته -على غير عادتي- من غير رد. طلبني مجدداً، وثالثة، حتى رددتُ عليه، فقد كنت أشعر بأنه آت من محطة تليفزيونية، والحديث سيكون عن أجواء المصالحة الخليجية، وقد كان ذلك بالفعل ما عدا أنها كانت محطة إذاعية، ليس هذا المهم فالمهم ما في الموضوع، ففعلت كما سبق وفعلت مراراً طيلة السنوات الخمس الماضية: اعتذرت عن الحديث في الموضوع!

فمنذ أن تلبَّدت الغيوم مراراً فوق الدول الخليجية الأربع، أخذ عددٌ -يا للأسف ليس بالكثير- من مواطني هذه الدول موقف الحياد، والحياد الإيجابي هنا يعني ألا يدخل أيٌّ من الأفراد في هذا الخضم ليزيد النار حطباً، ويلغ في الخصومة، بل ويَفجُر فيها.

في هذه المدة، وخصوصاً في الأشهر الأولى منها، انبرى شعراء، وكتاب، ورسامو كاريكاتير، وممثلون، وملحنون، ومغنون، ولكم أن تسمُّوا ما شئتم من هؤلاء الفاعلين -كل في مجاله- للاصطفاف إلى جانب نظامه الرسمي، وإطلاق ما شاءت له قريحته على الطرف الآخر من ألفاظ وأوصاف، وامتلأت الصحف بالأخبار الكيدية والمفبركة والمضللة، وإذا ما تعثَّر طرف أو حلَّ به سوء، قام الطرف الآخر بتسخير صحافته وإعلامه شاتماً شامتاً في "خصمه"، يود لو أنَّ المصيبة تتعاظم وتستمر، وكذلك الحال في المحطات التليفزيونية التي إن قلبتها ذات اليمين أو ذات الشمال، فلن ترى إلا النقائض التي تبعَث على الضحك المرير، وتدعو للأسى إلى ما وصل إليه الإعلام الخليجي، الذي يفترض أن يقود بقدراته المادية، الإعلام العربي، بل ويمكنه التأثير -إن شاء ونوى- في الإعلام العالمي ولو بعض الشيء، لكنه مُنصرف إلى المهاترات والحجج المكشوفة والمقرفة.

أما المحللون السياسيون، فوجدوا في هذا الخلاف ما يجده الضباع في الجيفة، فنادتهم غرائزهم للنهش من كل جانب، والظهور في كل محطة، والترويج لأنفسهم، وسحق الطرف الآخر، وما وقوع أي حادث، قريبا كان أم بعيدا، إلا بمثابة حقن منشطات تحليلية لربط أطراف القضية، مع إضافة البهارات والمنكهات، والخروج بقصة جديدة تدين الآخر وتُشِيطنه، والعلة أن أكثرهم -فيما أعلم- يعملون بالمجان، ويتقافزون بين المحطات والترددات في مقابل الظهور، أملاً في الحصول على نَظرة رضا، أو ربما منصب أيٍّ من كان.

وكل هذا يهون أيضاً أمام الرسائل الصوتية -غالباً- التي تبادلها أفراد كشفوا عن أقبح ما في قيعان أنفسهم من كلمات النقد والقدح والسب والشتم وانتهاك الأعراض والتقوُّل والافتراء، وصار السباق على كأس أي القواميس أقذع سباباً، وأكثر اتساخاً ودناءة من الآخر.

الآن.. وإذا ما صدقت كل هذه الأخبار -إلهي حقق أمانينا بصدقها- سيعُود رجالات الأنظمة إلى القبلات رغم الكمامات، والأحضان حتى مع توصيات التباعد، ولكن أي مكبَّات قمامة ستستوعب كل هذه الشتائم والإساءات وسيول التحليلات المفترية، وكل ما سبق قوله، ماذا ستقول الشعوب للشعوب؟ من سيمحو من الذاكرة ما قيل؟ من سيطهِّر الآذان والنفوس من الدنس؟

يا لهذه الدروس العصية على الاستيعاب.