الاغتراب والروح

 

جيهان رافع

الوجود خطاب يُحاكي جملة ديكارت الشهيرة "أن أشعر بالألم إذّا أنا موجود" لكننا نعيش الألم الباعث على إشعال قناديل الأمل ولا نُريد من الألم أن يشعر بوجودنا، نريد من الصباحات أن تعلو في تسارعها أن تضيء حكاياتنا أن تجعل التماع الفضيلة يشرق في عيوننا وفي مواقفنا النبيلة لأنَّ اغتراب الروح أشد فتكًا من غربة الجسد.

ليت قلوبنا تسافر معنا أينما كانت وجهتنا حين اغتراب وغربة فالحنين يغُيّر مسارها لتبقى في تلك الأماكن التي تغلغل حبها فينا وبالطبع ليس بالضرورة أن يكون الاغتراب خارج أوطاننا فربما يكون اغترابنا داخلها كالاغتراب عن مشاعرنا التي كنَّا نحلم أنها صادقة وقادرة على إنقاذنا من المجهول ومن صعوبة ما نعيشه وكالاغتراب عمَّا كنا نحلم به ولكنه ابتعد عنَّا كأنه قصد غيرنا ونسي أننا نحن أصحابه.

صوت الأزمنة يتعاقب على ذاكرة كل منِّا فنجد أنها فقط استدراك لماهية حياتنا وما بنينا عليها واستباق لانهياراتٍ أو لنجاحات شبيهة بما عشناه سواء عبرت بسلامٍ أم لم تعبرِ إذ إنها مهماز البقاء تأخذنا إلى العلاقة مع الذات الأصيلة تشبه التقاط الصور لأماكن قديمة لتصبح بموازاة سيمة الروح المغتربة في سياق مفتوح الآفاق على الاحتمالات.

لكن بين صحو ونوم نحاول دخول عالم الوعي الطبيعي، والتخلص من أحلام تأتي على شكل أطياف حلوة، فتوزّعنا بين أماكنٍ أحببناها ولم تكترث لنا وأماكن أحبتنا وأحببناها فصارت لنا الحاضر والمُستقبل، قد يمضي بنا الطيف بعيداً حتى أماكن أخرى، وما زال المفتاح في الباب الذي أوصدناه على مشاعرنا ينقل في أحلامنا باحثًا عمّا يجعل الأبواب مفتوحة لنا دفعة واحدة على واقعٍ لا يعرف الإرهاق والاغتراب والضياع.

في الشعر نجد المعاني المختلفة للغربة والاغتراب حيث يجسّد الشاعر مشاعر الجميع وإن كانت قصيدته لحالة ما يعيشها فهي تتشارك مع حالات كثيرة في نفس الشعور مع اختلاف الأماكن والظروف نتذكر من شعر بدر شاكر السياب بعض الأبيات التي قالها حين كان يعيش غربته الخاصة بعيدًا عن قريته جيكور في البصرة.

"آه جيكور جيكور ... ما للضحى كالأصيل... يسحب النور مثل الجناح الكليل... ما للأكواخ المقفرات الكئيبة ... يحبس الظلُّ فيها نحيبه".

ونتذكر من الشعر في اغتراب الروح للشاعر زاهر الغافري:

"انهض، انهض، وقل لديّ طريق... سأسلكها عبر الغابات.. عبر البحيرات الصغيرة... قل لدي بلدٌ ما... مدينةٌ ما أو قريةٌ بعيدة...تنتظر إشارة منّي".

فإنّ هذا الشغف في قصائد الغافري الذي يبحث دائمًا عن المكان الذي تحلم به روحه يجعلك تنصاع لمعانٍ شغوفة في استنهاض الأمل في الروح كي تنعتق من اغترابها وذلك تبين عن كثب في أحد إجاباته عندما حاوره أحد الصحفيين فقال: عندما أنظر إلى عملي الأول "أظلاف بيضاء" بعد ستة وثلاثين عامًا أجد نفسي كنت مأخوذًا بالصور الشعرية المرتبطة بالاغتراب النفسي.