د. صالح الفهدي
يروي أحد الرُؤساء التنفيذيين قائلاً: حضرتُ اجتماعاً بين غربيين بصفتي العربي الوحيد بينهم، وشهد الاجتماع اختلافاتٍ حادَّةٍ في وجهات النظر، وتصايح فيه المختلفون على آراءِ بعضهم البعض احتجاجاً واعتراضاً، فحسبتُ أن معركةً ستنشبُ بينهم بعد قليلٍ بالكراسي والطاولات نظراً لاحتدام الموقف، وصخب الخصماء، ولكن هدأت ثورة المختلفين مع نهاية الاجتماع، حتى قرروا الخروج سوياً إلى الغداء وكأنَّ شيئاً لم يكن!! صعقتُ لهذه المفارقة الحادَّة التي لم أعتد عليها، كيف لهؤلاءِ الذين كانوا يتعاركون منذ قليل أن يذهبوا إلى تناول الغداء سويَّاً وهم يتضاحكون ويتمازحون؟ هل كان الاجتماعُ مجرَّدُ مسرحية هزليةٍ وكنتُ أنا المتفرَّج الوحيدِ المخدوعِ بشدِّ الأعصاب؟ لم أجد تفسيراً لأن الثقافة التي عايشتها تقتضي أنَّ الاختلاف في الآراء يعني الاختلاف مع ذوات الأشخاص، وأن كل رأي لا يمكن فصله عن الإنسان، ولهذا فإن اختلفتُ في الرأي معه فيجب أن أخاصمه ولا أعود للكلام معه، بل وأناصبهُ العداء!.
هذه القصة رواها لي أحد الأصدقاء وهي تعكس "الصدمة الثقافية" التي تعرَّض لها من جراء مشاهدته لموقف متعارض مع الثقافة العامَّة في مجتمعاتنا وهي "إما معي أو ضدي" وأن "أراءك هي أنت" فإن خالفتني في الرأي فيجب أن أعلن عليك الحرب التي تبدأ بمقاطعتك، وخصامك، وتشويه سمعتك، والغدر بك!
نرفعُ شعار "الاختلاف لا يُفسد للودِّ قضيَّة" وهو شعار زائف لا نعملُ به في حياتنا الواقعية، لأن الواقع يشهدُ بأن "الاختلاف (يفسد) للود قضيَّة" والشواهدُ كلَّها تعبِّرُ عن ذلك، جرِّب أن تختلفَ مع مسؤولك سيضعكَ كما يقال في رأسه، وإذا وضعك في رأسه فهذا يعني أنه ثبَّتك بمسمارٍ في قائمته السوداء، فلن يمحى إسمك منها أبداً، لمجرَّد رأيٍ بسيطٍ خالفتهُ فيه، ولا يغرَّنك الطيبة أو الابتسامات في بعض الناس إذ هي ستار يخفي وراؤه ما تظهره تجربة الاختلاف معها وإن لمجرد رأي متواضعٍ يُبدى أمامها!!
يذكرُ لي أحدهم أنَّه كان في اجتماع مُوسَّعٍ فاختلفَ مع رئيس الوحدةِ في أمرٍ من الأمورِ، فعبَّر فيها بما لا يروق لذلك المسؤول، فاستدعاهُ ليسمعه رأيه قريباً من أُذنه فأسمعه الرأي، فخرج من الاجتماع إلى البيتِ مُحالاً للتقاعد! وأوصل ذلك المسؤول رسالة إلى الجميع بأنَّ هذا هو حال من يُخالفني في الرأي منكم! وذكر لي آخر أنَّه كانَ يحاول نصح رئيس الوحدة الجديد لتأخير قراراتٍ جائرةٍ متهوِّرةٍ فما هي إلا أيام حتى أُحيل إلى التقاعد!.. والقصصُ في ذلك كثيرة بل ويومية تشهدها المؤسسات على اختلافها! والنتائج هي إضرارٌ مباشرٌ بالتقدُّم الذي نريده لحياتنا، حيث يصبح الرأي الواحد هو المهيمن، وتتلاشى تعدد الآراء التي يمكن أن تُثري، وتبني، وتصبُّ في المصلحة العامَّة للمؤسسةِ أو الوطن، يقول المفكر العربي طارق حجي:"أسباب دمج "الذات" مع "الآراء" تتعاظم وتجعلنا أمام واحدٍ من أهم عوائق التقدم: فالتقدم يتطلب هواءً طلقاً ينمو فيه الحوار ويتطور وتتفاعل فيه الآراء ووجهات النظر في معادلة مستمرة تدفع بالعقول ودرجات ومكونات الوعي بل والمجتمع بأسره لمقاماتٍ أعلى من مقامات التطور الفكري والثقافي وهو أساس التقدم الأول".
هذه الثقافة تعمُّ للأسف جميع علاقاتنا وليست العلاقات المؤسسية فقط، فطغيان ثقافة الشخصية النرجسية تجعلُ الاختلافات في الرأي معدومة لأنها تعارضُ الصفات الفطرية التي ضربت بعروقها في أعماقها، كما تجعل شعارات التسامح مع الآراء المخالفة مجرَّد أحبارٍ رخيصةٍ في لوحاتٍ تتظاهرُ بها هذه الشخصيات المتكاثرة في المجتمع.
لماذا لا نستطع أن نفصل آراءنا عن ذواتنا؟ لماذا لا نستطيع أن نختلف مع بعضنا البعض ونعتبر أن ذلك أمرٌ إيجابي في الحياة دون أن تتضرر علاقاتنا؟ لماذا نخشى أن يضعنا المسؤول أو أيٍّ كان في رأسه إذا خالفناه بأدبٍ وموضوعية؟ في نظري أن ذلك يعود إلى طغيان الشخصية النرجسية في مجتمعاتنا فهذه الشخصية التي تعاني من الاعتلال المرضي تتصف بعدِّةِ صفاتٍ تماثل الواقعِ الذي نعيشه ومن ذلك أن هذه الشخصيات (حسبما يذكر مركز مايوكلينك) يتملَّكها شعور مبالغ به بأهمية الذات، وتتسمُ باحتكار الحديث والتقليل من شأن الأشخاص الذين ينظرون إليهم على أنهم أقل شأنًا أو ازدراؤهم، كما يتوقعون أن تكون لهم الأفضلية دومًا، مع امتثال الآخرين المطلق لرغباتهم، وهم يواجهون مشاكل كبيرة في العلاقات الشخصية ويشعرون بسهولة بالإهانة، والاستجابة لذلك بالغضب والازدراء ومحاولة التقليل من شأن الآخرين ليبدو كما لو أنهم يتمتعون بالتفوق!
ومع وجود هذا النوع من الشخصيات النرجسية فإننا واقعون في أزمة لا نستطيع أن نفصل فيها بين "الموضوعية" و"الشخصانية" فيصبح موضوعٌ يخصُّ العمل موضوعٌ شخصي، ويصبح الرأي في شأنٍ يتعلَّقُ بتطوير المؤسسة مشخصن، وتصبح كل علاقة على طرف الهاوية عند إبداءِ الآراءِ المتخالفة، وهنا فإمَّا إن تصمت وإما أن تتعرض لعداءٍ طويلِ الأمد، ومنغصِّاتٍ لا تنتهي.
قرأتُ أنَّ جو بايدن الرئيس الأمريكي المنتخب يرتبطُ بعلاقات صداقة مع جمهوريين وهو ديمقراطي، ما يعني أنه وأصحابه الجمهوريون استطاعوا أن يفرِّقوا بين الاختلافات الحزبية –الجذرية في بعض القضايا- والصداقة الشخصية، فيتعاركون في الكونجرس، ويمسون معاً في أحد المطاعم آخر النهار، وقد حدَّثني أحد أن آباءنا وأجدادنا كانوا يذهبون معاً إلى المحاكم ليفصل القضاء بينهم في مسائل اختلفوا فيها، ثم يعودون ليأكلوا معاً من صحنٍ واحدٍ، فكيف تخطَّت تلك الأجيالُ هذه المعضلة التي فرَّقت بين "الموضوعي" و"الشخصاني" ولم نستطع نحن -المستنيرون بالتعليم- أن نفعل ذلك؟!
خلاصةُ الحديث أننا إذا أردنا أن نرتقي في تفكيرنا، ونصبوا نحو الغايات السامية لنا كأفراد، أو كمجتمعات، أو كأوطاننا فإننا يجب أن نتخلَّص من الشخصية النرجسية التي بداخلنا، والتي تسعى إلى الحيازة، والتملك، ومصادرة ما للآخر من حقٍ في الرأي، والكلام، والنظر، هذه الشخصية النرجسية مضرِّة إلى الحد الذي تعيقُ فيه وطناً بحالهِ عن التطور والتقدم في مجالات مختلفة لأنها ترى أنها هي الأثرى نظراً، والأحرى تميزاً، والأغنى فكراً، أما غيرها فلا يساوي شيئاً أمامها.
التقدم في حقيقته ليس عمراناً يسمو، وإنما فكر ينمو. هذا الفكر يحتاجُ إلى شخصية منفتحة العقل، متسامحةً في أفكارها، لا منغلقةً على آرائها، مقصية للرأي الآخر.