أتعهد بالتريُّث

غسان الشهابي

أعتقد أنَّ أيَّ كلام الآن عن وجوب مقاطعة البضائع الفرنسية من عدمه، أو مقاطعة المنتجات التركية من عدمه أيضاً، سيصبُّ في خانة العدمية؛ فلقد قِيل في هذين الشأنين (اللذين يبدو أن مروجيهما يَقِفان على طرفي نقيض من بعضها) ما تنوء بحمله الإبل، فلن آتِي بجديد في هذين الشأنين، لكنني اليوم مُلتفت إلى مبادرة قامت بها الأمم المتحدة في الثلث الأخير من الشهر المنصرم بوسم #أتعهد_بالتريث في نشر المواد الإعلامية.

هذه الدعوة مُوجَّهة في الأساس للإعلام الرقمي الذي يستخدم شبكة الإنترنت لنقل مواده المختلفة من كلمات وصور وخرائط ورسومات..وغيرها؛ بما في ذلك منصات الإعلام الاجتماعي التي ظهرت بظهور ويب 2.0، ومذ ذاك شعر حوالي مليارين من البشر -وهو عدد تقريبي لمستخدمي الإعلام الاجتماعي في العالم- أنهم باتوا فاعلين وليسوا منفعلين وحسب.

وفي العرف الصحفي الكلاسيكي، هناك تعبيرات منها "مسبق" أو "سبق صحفي"، وهو الذي تفاخر به الصحف والمحطات الإخبارية لدى تقدُّمها على المنافسين في قصة معينة أو قضية ما، ويُنسب إليها هذا السبق كجزء من تاريخها في التميز. هذا كان سابقاً، أمَّا اليوم فلِكَثرة القضايا وتعقدها وسرعة دورانها، فما عاد هنالك "السبق" كما كان في السابق، ولا flash news، ولا breaking news، ومع ذلك يصرُّ الكثير من مستخدمي هذا النوع من أنواع التواصل لأن يكونوا "أول" من ينشر الخبر أو الفيديو أو الصورة على أوسع نطاق، ومع أنْ لا أحد يذكر الآن "أوّل" من فجَّر قضية أو كشف النقاب عنها، إلا أنَّ هذه النفسية التسابقية هي الغالبة لدى الغالبية، حتى باتت هذه الوسائل تعجُّ بالغث المتجاوز بأضعاف المرات لما هو حقيقي، ولكثرة الإخفاقات التي وقعت شهوة السبق هذه، بات الناس ينظُرون بالكثير من الريبة إلى الأخبار التي تصل إليهم، ولا وقت لكل فرد لكي يتبصَّر في صحة المعلومات، فسَادَ اللايقين والشك المقدّم على التصديق، والمطالبة حتى ممن يقول لك: صباح الخير، أن يُثبت أنه صباح، وأنه خير أيضاً.

المُفزِع هنا هو أنَّنا كُنا نتعلق في حبال الصحافة المؤسسية التي لها هرم تحريري وعليها مسؤولية قانونية وأخلاقية أكثر من غيرها، هي أيضاً راحت تنقل عن الإعلام الاجتماعي، وتَفْرِد له مساحة، في الوقت الذي صار ما يتداوله الناس "الحقيقيون والذبابيون" في الإعلام الاجتماعي جزءاً أساسيا من فقرات المحطات الفضائية.

وصارَ تركيب الصور والنطق على ألسنة الآخرين، خصوصاً المشاهير من العاملين في شتى الحقول ومنهم السياسيون، والتي تُصبح من الحقائق الدامغة لكثرة ترددها، وانتشارها الواسع النطاق، والاستشهاد بها حتى من قبل أكثر الشخصيات رزانة ورصانة؛ فلو ضربنا المثل بما ورد لعشرات المرات أنَّ رئيس شركة نوكيا للاتصالات انهار باكيًا؛ لأنه لم يُراقب السوق بالشكل الجيد، وعلى ما في الحكاية من عبرة إلا أنها ليست صحيحة.

الأمر نفسه ينطبق هذه الأيام على الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قيل إنَّ ترجمة سيئة لحديث ماكرون قد تكون متقصدة أو لضعف المترجم، أسهمت في حرف الكلمات عن معانيها، وأججت شعور الكثير من المسلمين. وبالمثل تبادل "السوشليون" تغريدة لرئيس وزراء ماليزيا الأسطوري مهاتير بن محمد يقرِّع فيها مفهوم الحرية الفرنسية، وتالياً قيل إنَّ هذه التغريدة على "جمال" محتواها إلا أن الرجل لم يقلها، ومع ذلك لا تزال تسري بين التطبيقات على أنها واحدة من أكثر العبارات جُرأة تصدر من شخصية عالمية، دون التفات لحقيقتها.

ألم أقل إنني لن أتناول موضوع المقاطعة؟!