التخلي عمَّا هو لي

غسان الشهابي

في السنوات العشر الأخيرة راجت عبارات غريبة في الأفق الخليجي تخص القضية الفلسطينية. عبارات لها كلمات مفتاحية تتردد بشكل مُثير للشك، مثل: عرب الشمال، ما لنا ولهم، الفلسطينيون هم من باعوا أراضيهم، القيادات الفلسطينية فاسدة، الصراعات ما بين أقطاب القيادات الفلسطينية... وغيرها الكثير من العبارات التي تعمل على خلخلة الكثير من الثوابت التي تربينا وكبرنا عليها، منها الواقعي، ومنها العروبي، ومنها الديني، ومنها الإنساني، وتمييع جميع القيم للانتهاء إلى الفردانية والأنانية الوطنية الضيقة تحقيقاً للمثل الشعبي القائل: "إذا سلمت أنا وناقتي، ما عليّ من رفاقتي"!

وإن جئنا إلى الحق، فإنَّ بعضاً من الفلسطينيين روّجوا كلاماً خاطئاً وجارحاً في هذه الفترة، يرد أهل الخليج إلى البداوة (وهذه ليست سُبّة على أية حال)، وإنه لولا المعلمين الفلسطينيين لبقي أهل الخليج في الجهل، وأن مصنع أحذية في فلسطين أقدم من بعض دول المنطقة (كما قرأت من يومين)، والقائمة تطول أيضاً بمن "عمّلوا" وخوّنوا في جميع المحطات.

لذا أصبح لدينا في الوقت الراهن فريقان من أصحاب الأصوات العالية، فمن هم الذين يشيرون اليوم إلى أن فلسطين شأن فلسطيني بحت، أو أن قياداتها – عبر العقود الماضية - فعلوا وتركوا، وأنَّعلى من هم في الخارج أن ينفضوا أيديهم ما دامت هذه أفعال "أصحاب القضية". وفريق آخر في الداخل يقول بأنْلا حاجة للفلسطينيين إلى غيرهم بصفتهم شعب الجبارين وأنهم هم وحدهم "أصحاب القضية"، وكلا الفريقين بات متصلباً عند رأيه، لا يرى أبعد من لحظته، غلبته عاطفته واستسلم لسورة الغضب الذي انتابته جراء ما يحدث مؤخراً، إما مبرراً وإما رافضاً مستنكراً.

لهؤلاء وهؤلاء، يمكن القول إن بلداننا جميعاً ما كانت يوماً لمن يحمل أوراقاً مصطنعة ومستجدة لم يعرفها الأسلاف، بل كانت مفتوحة أمام الجميع، للتجوال والعلم والرزق والمتاجرة والمصاهرة والإقامة، ويحمل المهاجرون أسماء مناطقهم معهم كالبغدادي والشامي والمصري والصفدي...إلخ، بل وتولي المناصب الرفيعة مثل القضاء، والعلماء كانوا طلاب علم يترحلون ليدرسوا على يدي من هو أعلم منهم في هذه البقعة أو تلك، وغيرها من أغراض التنقل، وما كانت الأرض تضيق بأحد من الآتين إليها. ولذلك، إذا حاق الخطر بأيٍّ من هذه البلاد – التي نعتبرها جميعاً بلادنا حتى لو لم نزرها يومًا، وأن لنا الحقوق نفسها للذين يسكنون فيها – ترانا نهبّ مُلبّين النداء بالأموال والأنفس، والحوادث الموثقة عبر التاريخ، وصولاً إلى القرن العشرين تشهد بتكرار هذه الوقائع.

ففلسطين ليست حكراً على أهلها ومن حمل أوراقها، حتى لو قال السياسيون من الطرفين هذا الكلام، وليست القدس مسألة داخلية يتصرف فيها من يدّعي أن له حق التصرف فيها لنرفع أكتافنا ونمطّ شفاهنا قائلين: ما باليد حيلة. ولا الأقصى عهدة عند أسرة أو قبيلة أو دولة فإن ضاع فهو شأن داخلي، ولا كل هذا التاريخ الذي يتكاثر عالمياً من يؤمنون بعدالته قابل للتخلي، والذهاب إلى المناطق المظلمة منه لما فعل هذا القيادي، وما اقترفه ذاك الفصيل... إنه شأننا جميعاً، وقضيتنا جميعاً، إن ضاعت تفرق شملنا بدداً إلى أن يشاء الله.