"التراث والسياحة".. النموذج المأمول بعد الهيكلة الحكومية

مسلم بن سعيد مسن *

 

قَضَى المرسومُ السلطانيُّ رقم 91/2020 بتعديل مسمى وزارة التراث والثقافة إلى وزارة التراث والسياحة، وتحديد اختصاصاتها، مع نقل كافة المخصَّصات والأصول والحقوق والالتزامات والموجودات والموظفين بوزارة السياحة إلى هذا الكيان الإداري الجديد؛ إيذانا بإطلاق رؤية متكاملة لصناعة السياحة بالسلطنة تستفيد من الميزة النسبية للموروث التاريخي والثقافي والحضاري؛ لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنهوض بهذين القطاعين على المدى المنظور (التراث والسياحة)؛ ليكونا ضمن البدائل الإستراتيجية المعوَّل عليها خلال المراحل المقبلة على مستوى برامج التنويع الاقتصادي وتمويل الميزانية العامة للدولة.

وبما أنَّ دَمج قطاعي "التراث" و"السياحة"، جاءا ضمن أبرز مفردات الهيكلة الحكومية التي تمت في أغسطس 2020م، فإنَّ الولوج للاختصاصات الواردة في المرسوم 91/2020م قد يُعطي بعض الدلالات لمقتضيات تلك الهيكلة، ولعلَّنا نقف طويلا عند الفقرة (8) من تلك الاختصاصات التي لخَّصت بشكل واضح  الغاية الرئيسية من ربط القطاعين في منظومة واحدة: "تنفيذ الأهداف والسياسات العامة لتطوير صناعة السياحة في السلطنة، ووضع الخطط والبرامج الكفيلة بتحقيقها، وبناء قطاع سياحي منتج ومتنوع ومتكامل يستفيد من الموروث التاريخي والثقافي والحضاري للسلطنة، ويحافظ عليه بما يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية". طبعا مع عدم التقليل من ممارسة الاختصاصات الأخرى لتلبية مقاصد هيكلة هذين القطاعين، ولكن يبقَى الاختصاص الثامن (الفقرة 8) أبرز اختصاص -من وجهة نظري- يُمكن أن يعكس طموحات الجميع إذا ما مُورِس من قبل وزارة التراث والسياحة بشكل احترافي ومتقن ووضعت له الخطط والبرامج الكفيلة لتحقيقه في قادم الوقت؛ لأنَّ هذه التوليفة المتمثلة بقطاعي التراث والسياحة يمكن أن تخلق الفارق بالنسبة لنموذج السلطنة، بل ويمكن لها أن تكوِّن صناعة سياحية قائمة على عناصر مستدامة؛ مثل: الموروث الحضاري والتاريخي الذي تتميز به السلطنة، وتتفرد بالعديد من أصوله المعنوية والمادية. ولا شك أنَّ بناء هذا النموذج والوصول به إلى معدلات عالية من التنمية السياحية يتطلب جهودا نوعية في المرحلة المقبلة، ويستدعي من الوزارة -منذ البداية- أن تحدد المتغيرات الأكثر تأثيرا في معادلات هذا النموذج لتحقيق التنمية السياحية المنشودة. وقد يحاول هذا المقال المختصر تحديد بعض منها؛ وفقا لما يلي:

- التراث والموروث الحضاري:

تُشير بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات من خلال الإصدار الخامس (2019) -بيانات 2018م- إلى أنَّ عدد القلاع والحصون (ذات الطابع السياحي) في السلطنة تبلغ 51، زارها في العام 2018م (366,348)، كما يشير نفس المصدر إلى أن عدد المحميات حوالي 22، بلغ زوارها في نفس العام 2018 حوالي 305,405. تلك المكونات الراسخة على التربة العمانية وغيرها من المواقع المسجلة في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو كقلعة بهلاء والمواقع الأثرية في بات والخطم والعين ومواقع أرض اللبان (البليد، سمهرم، وبار الأثري ووادي دوكة ) وأنظمة الري (الأفلاج)، ومحمية المها العربي إنما تعكس أهمية هذا الموروث الحضاري والإنساني لكي يُستَثمر كأحد "عوامل الجذب السياحي" لبناء قطاع سياحي مُستدامة موارده وقادر في الوقت ذاته على أنْ يعكس للسائح مَوَاطن التفرُّد والتميُّز والتنوُّع للبلاد. ونعتقد بأن متغير "التراث المعنوي"؛ المتمثل في: "السرد"، و"التوثيق"، و"التسويق المسؤول" لأبرز المكنونات الإنسانية لتلك المواقع التراثية والحضارية، هو العامل الفارق في تعظيم القيمة من قطاع السياحة؛ لأنَّ الواضح أنَّ الاهتمام المقتصر على محتويات التراث المادي (عمليات التحسين والترميم) لا يكفي إنْ لم يتزامن مع جهود الجهات الحكومية المشرفة وأبناء الوطن المجاورين لهذه المواقع في نقل التراث المعنوي من تجارب ومفاهيم وعادات موروثة مستمدة من البيئة العمانية الأصيلة وفنون وثقافات مجتمعية متأصلة من الواقع المعاش. وهنا، يأتِي أيضًا أهمية ربط مكنونات التراث والموروث الحضاري بالهوية لتحقيق التميز وترجيح وجهات سياحية على أخرى في ظل احتدام التنافس في مختلف البيئات السياحية على مستوى العالم، ولا شك أنها عمليات ربط ضرورية تستدعي من وزارة التراث والسياحة وضع خطط تنفيذية تتواكب مع هذا النمط من السياحة حتى تزيد من جاذبية الوجهات السياحية العمانية على الخارطة العالمية وتستفيد من قطاع التراث استفادة حقيقية خلال المرحلة المقبلة.

- الاستثمار في السياحة التراثية:

مُتغيِّر "الاستثمار" يُعتبر مؤثرا في السياحة التراثية، ولا تُعنَى بسياساته وخططه وبرامجه الوزارة وحدها، الشريك المحوري هنا جهاز الاستثمار العماني بمحفظته الاستثمارية في قطاع التنمية السياحية (شركة عمران، واستثمارات الجهاز في مختلف أصول الضيافة الداخلية والخارجية)؛ من خلال توجيه الخطط الاستثمارية المتوافقة مع خطط الوزارة الرامية لإبراز التراث كمنتج سياحي جاذب وقادر على خلق صناعة سياحية تُسهم في برامج التنويع الاقتصادي. ولعلَّ البيان الذي أصدره جهاز الاستثمار العماني مؤخرا حول إعادة دراسة وتقييم مشروع تطوير ميناء السلطان قابوس، وتنفيذ المشروع "بما لا يتعارض مع خصوصية موقع الميناء والإرث التاريخي والمعماري للمنطقة المحيطة به، وتقديم أنشطة سياحية تتناسب مع أسلوب حياة المجتمع المجاور له"، يؤازر ويدعم الاعتبارات القائمة على وضع "الموروث" في حسابات ودراسات وتقييمات جهات الاستثمار عندما تستثمر أو تقوم بتخصيص مواقع للاستثمار السياحي.

- عوامل الجذب السياحي لكل محافظة على حدة:

يُمكن أن يكون هذا المتغير (variable) ضمن ما يميز هذه المرحلة من عمر النهضة من خلال صدور "نظام المحافظات والشؤون البلدية بالمرسوم السلطاني رقم (101/2020)"، وقد يستفاد من الاستقلال الإداري والمالي الممنوح، وتعزيز صلاحيات المحافظات في دعم عوامل الجذب السياحي لكل محافظة عندما نتحدث عن هذا القطاع، وإعطاء مرونة أكبر في استغلال الميزة النسبية لكل محافظة في مجال التراث والسياحة عبر سياسات وخطط تتناسب مع تلك الميزة وتعززها ولا تصطدم بقيود مركزية، وقد يكون هذا التوجه مدخلا جيدا لتعظيم الإيرادات غير النفطية (نعني هنا الإيرادات المتأتية من السياحة من رسوم وخدمات تفرض نتيجة تعزيز عوامل الجذب السياحي لكل محافظة على طبعا بعد توفير المرونة المالية الكافية في هذا الجانب).

- المورد البشري الرافد للقطاعين:

عندما تركز "السياسات" -بمختلف أنواعها: التعليمية والسياحية والاستثمارية- على بناء كوادر بشرية قادرة على إبراز مكنونات التراث ومفرداته الثقافية والحضارية، فإن ذلك -بلا شك- سيحفز القيمة الكلية للقطاع السياحي في جوانب عديدة؛ منها: ريادة الأعمال في المشروعات السياحية، والانخراط في وظائف نوعية ومربحة تزيد مدخولات الأفراد، وترسخ الاعتماد على الذات، وتعمل على قيام صناعات سياحية إبداعية قادرة على المنافسة مع الحفاظ على هُويتها الوطنية. ولابد من الإشارة إلى أن التحدي كبير، فالبيانات والأرقام المعلنة لا تزال متواضعة، وبالأخص "معدلات أو النسب التعمين" للقطاع السياحي؛ فمن خلال بيان معالي وزير السياحة السابق أمام مجلس الشورى للفترة الثامنة بتاريخ 27-28 فبراير 2019، فإن نسبة التعمين المحققة في العام 2018م لم تتجاوز 11%، وعند مراجعة النشرة الإحصائية الشهرية -سبتمبر 2019- نجد أنَّ "أنشطة الإقامة والخدمات الغذائية يشتغل بها حوالي 107.5 ألف وافد، مما يدل على ضعف استيعاب القطاع للعمانيين، كما أنه من الضروري الآن بعد الدمج بين قطاعي التراث والسياحة تتبُّع الأنشطة المرتبطة بهما مع مختلف الجهات والقطاعات ليتسنى تحديد مؤشر يعكس البيانات الدقيقة لقوة العمل سواء العمانية أو الوافدة، ولابد لهذا المؤشر أن يضم الأنشطة ذات الطابع السياحي والتراثي؛ مثل: الإقامة، والترفيه، والفنون، وخدمات التغذية السياحية (المطاعم والمقاهي السياحية والتراثية)، وخدمات الإيواء التراثية (النُّزل التراثية، والقرى التراثية المطورة، ووسائل الإرشاد المتطورة؛ مثل: المرشد الآلي...)؛ وبالتالي فإنَّ البيانات والأرقام المستخرجة ستمكِّن المخططين من اختيار "سياسات التعمين والإحلال المناسبة" .

الخلاصة أنَّ متغير "المورد البشري" سيلعب دورا مهما في تحريك "النموذج" القائم على توأمة عناصر التراث والسياحة وتحقيق الديناميكية والاستدامة المطلوبة لبرامجه وسياساته.

كان ذلك استعراضا لبعض المتغيرات التي نعتقد أنها تَصلُح لأن تتقدَّم سلم أولويات الدمج الحاصل لقطاعي "التراث" و"السياحة" للوصول إلى صناعة سياحية كما في الفقرة (8) من اختصاصات وزارة التراث والسياحة الواردة في المرسوم المشار إليه في بداية المقال.

* مختص بالشؤون الاقتصادي