أ.د. دينغ لونغ **
يُشير مصطلح تسييس الاقتصاد في إطار الأمن، إلى عملية تقوم بها الدولة من خلال خطاب أمني بتحويل القضايا الاقتصادية، التي كانت في الأصل خارج نطاق الأمن، إلى مشاكل أمنية، وعندما تعتقد دولةٌ ما أن التعاون الاقتصادي قد يُضعف مصالحها الشاملة في التنافس بين القوى الكبرى، أو عندما تواجه صدمات كبيرة في العلاقات الدبلوماسية، غالبًا ما يُهيمن المنطق الأمني على المنطق الاقتصادي.
وفي هذه الحالة، يجري ربط القضايا الأمنية والاقتصادية عمدًا، ولا تعد العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة تعمل كـ"صمام أمان" يثبِّت العلاقات الثنائية؛ بل إنها بدلًا من ذلك تتحول إلى "تهديد أمني" مُحتمل، وتصبح ذريعة لتعطيل العلاقات الثنائية أو تقويضها. في هذه المرحلة، قد يُستخدم الاعتماد الاقتصادي المتبادل أيضًا كأداة لتعزيز المصالح الاستراتيجية والانخراط في مناورات جيوسياسية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، وبفضل التقدم السريع للعولمة الاقتصادية، شُكّلت تدريجيًا علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول. ومع ذلك، لم تُغيِّر إمكانية المنفعة المتبادلة وعلاقات الاعتماد المتبادل هذا المنطق التنافسي بين الدول، وخاصةً بين القوى الكبرى. وفي السنوات الأخيرة، مع استمرار اضطرابات الوضع الدولي، تشير النزاعات -مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والنزاع الروسي الأوكراني، والحرب التجارية الصينية الأمريكية- إلى وجود تناقض حادّ بشكل متزايد في العالم الواقعي بين الروابط الاقتصادية والتجارية الوثيقة وتدهور العلاقات السياسية؛ مما زاد من تعمُّق مُعضلة الأمن. في هذا السياق، بدأت بعض الدول في تعطيل أو حتى تسليح علاقات الاعتماد الاقتصادي المتبادل التي يفترض أن تكون متبادلة المنفعة، بهدف أساسي يتمثل في احتواء تطور الخصم وتوسيع قدرتها التفاوضية في الشؤون الاقتصادية والأمنية.
ولا يتوقّف استنتاج الولايات المتحدة لـ"التهديد الصيني" على ما إذا كانت الصين قد أظهرت حُسن النية بشكل مناسب، ولا على الحجم الإجمالي للتجارة بين البلدين؛ بل يعتمد على ما إذا كانت العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية مفيدة للحفاظ على هيمنتها، ويعتمد على درجة التنافس والتقويض التي يشكّلها صعود الصين لهيمنة الولايات المتحدة. ولفترة طويلة في الماضي، اعتقدت الصين والولايات المتحدة أن علاقة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما يمكن أن تكون بمثابة صمام أمان للعلاقات السياسية بين البلدين، ووُجِّه إجماع حول إدراك المكاسب مقابل التكاليف. خلال هذه الفترة، نادرًا ما تأثّرت العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية بين الصين والولايات المتحدة بالمشكلات السياسية والأمنية، ولعبت الروابط الاقتصادية والتجارية الوثيقة دورًا في تخفيف حدة العلاقات بين البلدين وحل النزاعات. ومع صعود الصين، امتدّت التناقضات بين الولايات المتحدة والصين من المجال السياسي إلى المجالين الاقتصادي والأمني. أصبحت الولايات المتحدة تدريجيًا غير راضية عن المكاسب النسبية في علاقة الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الصين؛ حيث إن فوائد التعاون الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة ستضر بالمكاسب الشاملة لها في التنافس على القوة.
وبصفتها دولة مهيمنة، تسعى الولايات المتحدة إلى الحصول على مزايا غير مُتناظرة في الاعتماد الاقتصادي المتبادل؛ حيث تُولي اهتمامًا أكبر للمكاسب النسبية مقارنة بالمكاسب المطلقة في علاقتها الاقتصادية مع الصين. لديها الحافز والقدرة على تحقيق السعي للقوة من خلال تسييس العلاقات الاقتصادية مع الصين.
من وجهة النظر الأمريكية، تمثل الصين 50% من إجمالي عجز التجارة الخارجية الأمريكية، وهي أكبر مصدر للعجز التجاري الأمريكي. وإذا استمرت الولايات المتحدة في التجارة مع الصين، فلن يؤدي ذلك فقط إلى زيادة العجز التجاري مع الصين؛ بل سيؤدي أيضًا إلى تدفّق التقنيات الأمريكية الحساسة إلى الصين؛ مما يعزز صعود الصين.
من ناحية أخرى، ونظرًا لأن الولايات المتحدة لا تزال تحتل موقعًا مُهيمنًا في الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الصين، فإن الصين تتمتّع بحساسية وضعف أكبر تجاه الاعتماد الاقتصادي المتبادل الثنائي. وفي حالة اندلاع صراع اقتصادي بين البلدين، ستتكبّد الصين خسائر أكبر.
ومع ذلك، هناك علاقة اعتماد اقتصادي متبادل وثيقة وطويلة الأمد بين الصين والولايات المتحدة، مع اتّصال عميق في سلاسل التوريد والإنتاج العالمية، وارتباط قوي للمصالح الثنائية. وإذا قامت الولايات المتحدة، دون مبرّر، بتقويض العلاقات الاقتصادية الصينية الأمريكية باستخدام وسائل اقتصادية هجومية متنوعة، فلن يؤدي ذلك فقط إلى معارضة من مختلف جماعات المصالح والمواطنين العاديين داخل الولايات المتحدة؛ بل سيؤدي أيضًا إلى استياء الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين، وسيكون من الصعب الحصول على دعم وتأييد المجتمع الدولي. لذلك، في عملية قرار الولايات المتحدة عرقلة صعود الصين باستخدام الوسائل الاقتصادية، أصبح تسييس الاقتصاد وسيلة رئيسية للحفاظ على الهيمنة، وتفسير السلوك، وتوحيد الإجماع، والتنفيذ القسري.
بالعودة إلى تطور العلاقات السياسية والاقتصادية الثنائية بين الصين والولايات المتحدة من عام 2018 حتى الآن، يُعد تسييس الاقتصاد سِمة مشتركة للسياسة الاقتصادية تجاه الصين في إدارتي ترامب وبايدن. قبل بدء التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة في عام 2018، سلطت الولايات المتحدة الضوء على "التهديد الصيني" في 3 وثائق أمنية صدرت عام 2017؛ وهي: تقرير الاستراتيجية الأمنية القومية، وتقرير استراتيجية الدفاع الأمريكي لعام 2018، ومراجعة الوضع النووي؛ حيث لم تُعرَّف الصين فقط على أنها "تحدٍ كبير" للازدهار والأمن الأمريكي؛ بل شدّدت تحديدًا على أن الأمن الاقتصادي هو الأمن القومي.
في التوتّرات التجارية الصينية الأمريكية، أطلق ترامب "تحقيقات 232" و"تحقيقات 301" على المنتجات الصينية المصدّرة إلى الولايات المتحدة، واعتبر الصين "منافسًا استراتيجيًا" للولايات المتحدة، واستمرّ في الترويج لـ"التهديد" الذي تمثّله الصين للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، بحاجة مقاومة "الغزو الاقتصادي الصيني"، فرض رسوم جمركية باهظة على الصين، وفرض قيود على الاستثمار، وبدأ بشكل قوي عملية "الانفصال الاقتصادي" مع الصين.
من خلال ممارسات إدارتي ترامب وبايدن، أصبح منطق تسييس الاقتصاد الأمريكي الآن ناضجًا تدريجيًا؛ حيث أصبحت سياسته الاقتصادية الخارجية أكثر استهدافًا، ويمكن تطبيقها بشكل أكبر في الضربات والانفصال عن الصين في مجالات تجارية محدّدة؛ مما يشكل تحديات حقيقية لاقتصاد الصين وتنميتها، وحظيت بشكل عام بدعم الأوساط الاستراتيجية والجمهور الأمريكي. لكن السياسات الأحادية لتسييس الاقتصاد الأمريكية قوَّضَتْ إلى حدٍ كبير استقرار سلاسل التوريد العالمية، وأثارت مخاوف دول أخرى من تدخُّل الولايات المتحدة وتأثيرها على استقلاليتها، وأضعفت إلى حدّ كبير الثقة في سلاسل التوريد التي تقودها الولايات المتحدة، كما جعلت الولايات المتحدة نفسها تواجه مشاكل تضخم وخسائر في الرفاهية أكبر من تلك التي تواجهها الصين.
ومن المرجّح أن تتعمَّق حدة اتجاه الولايات المتحدة نحو تسييس الاقتصاد، ويستمر ارتفاع خطر تسليح الاعتماد الاقتصادي المتبادل. في مواجهة ذلك، تسعى الصين إلى الحفاظ على الثبات الاستراتيجي، والتركيز على المدى الطويل، وصياغة الوضع المواتي بنشاط، واستقرار اتجاه التنمية.
أولًا: تعمل الصين على تحديد شامل لنقاطها الحساسة والهشة في شبكة الاعتماد العالمي، وتحسين آليات مكافحة العقوبات والاستجابة للمخاطر. ثانيًا: تسعى الصين إلى تعزيز التقدّم المتزامن للسيطرة الذاتية على التقنيات الرئيسية، وتحسين هيكل سلاسل التوريد، وتنويع الأسواق، وتعزيز القدرة على تحمّل الضغوط والمرونة الاستراتيجية للنظام الاقتصادي المحلي. ثالثًا: يتعيّن على الصين توسيع التعاون متعدّد الأطراف بشكل أكبر، لوضع أساس لبلورة فضاء استراتيجي سلمي ومستقرّ ومستدام. وأخيرًا.. كقوةٍ رائدةٍ في الجنوب العالمي، يجب على الصين أن تُطلق المبادرة لنظام اقتصادي وتجاري دولي قائم على الانفتاح والتعاون والقواعد، ووضع حدّ لاتجاه التسييس، وطرح حلول صينية في إعادة بناءً نظام الثقة العالمي للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي بناء على التعاون الدولي متعدّد الأطراف.
** أستاذ بمعهد الدراسات شرق الأوسطية في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، الصين