التجويع.. جهد العاجز ووحشية المُستبد (3)

 

 

 

مصطفى محسن اللواتي

التجويع والقوانين الدولية

جرَّمت كل القوانين الإنسانية والدولية، والأعراف الإنسانية، تجويع المدنيين ومنع الطعام والدواء عنهم، وأدانت هذا الأمر إدانةً صريحةً، وأوصلته إلى مستوى جريمة حرب.

فقانون النزاعات المسلحة، في اتفاقيات جنيف (1949) والبروتوكول الإضافي (1977)، ورد في المادة (54) المتعلقة بحماية المدنيين في النزاعات الدولية: "يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب". كما حظر القانون تدمير أو تعطيل المواد الغذائية، والزراعة، ومصادر الماء، ووسائل الري، والنقل. وجاء في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) في المادة (8) (جريمة الحرب): يصنَّف "تجويع المدنيين عمدًا، بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم" جريمةَ حرب، ويشمل ذلك: قطع الإمدادات الغذائية، وعرقلة وصول الإغاثات الإنسانية، ومحاصرة المناطق المدنية بشكل متعمد.
أما الأمم المتحدة، ورغم أن قرار مجلس الأمن رقم (2417/2018) جاء متأخرًا جدًا، إلا أنه كان أول قرار أممي صريح يُدين استخدام التجويع كسلاح حرب؛ فهو يُدين التجويع المتعمد للسكان المدنيين، ويطالب بمحاسبة المسؤولين عن مثل هذه الأفعال، ويؤكد ضرورة وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ويشير إلى أن استخدام الحصار والتجويع يرقى إلى جريمة حرب.

 

ماتوا جوعًا.. ثم ماذا؟

بحسب رسالة صادرة في أكتوبر 2024 من (99) عاملًا صحيًا أمريكيًا عملوا في القطاع، قُدِّر أن ما لا يقل عن (62,413) شخصًا توفوا بسبب الجوع وسوء التغذية، أغلبهم من الأطفال الصغار، مع وفاة إضافية لما يقارب (5,000) شخص لعدم توفر الرعاية الصحية لهم، ومعظم التقديرات تشير إلى أن نسبة الأطفال بين من ماتوا جوعًا أو بسبب أمراض مرتبطة بسوء التغذية تتجاوز 70% إلى 80%.، ما يحدث في غزة من إجرام وإبادة وعنصرية وانتقام، بهذه الوحشية والهمجية، يصل إلى القتل جوعًا، بل والقتل لمجرد طلب طعام. حدثٌ غير مسبوق، يجعل العالم كله أمام محك كبير بين شعارات ضخمة رُفعت بعناوين: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والدفاع عن الحريات، والعيش المشترك، وحق الدفاع عن النفس، وحق إخراج المحتل… إلخ، وبين واقعٍ وضع كل هذا تحت قدميه لمجرد الحفاظ على كيان يخدم مصالح فئة من البشر يرون أنفسهم فوق الجميع، ويرون عرقهم أنقى وأفضل من بقية البشر.

والمصيبة الكبرى أن كثيرًا مما يُسمَّى "دول العالم الثالث"، ومنها دول عربية وإسلامية، صارت عبيدًا تخدم أجندة "العرق السامي"، بعد أن صدقت هذه الكذبة، لتصبح خدمًا لمصالحهم: تارةً بالأموال الهائلة، بعد أن سلَّمتهم مفاتيح خزائن قارون التي يحتضنونها، وأخرى بالسياسات المنافقة المدافعة عن باطلٍ اعتنقته، ومرةً باللوجستيات التي توفر للأسياد قواعد يستمتعون فيها بخدمات النجوم الخمس، لينطلقوا منها لضرب الأبرياء.

 

المبررون للاحتلال

والواقع الذي يؤلم أكثر من وقوف الأنظمة مع النظام اللقيط وأسياده، هو بروز فئات تلوم المقاومة التي تريد تحرير أرضها من الجور الغاشم الذي يديره الغرب متمثلًا في أمريكا. وفي محاولات تبرير لا منطق فيها، يتصارخون: إن المقاومة هي السبب في قتل المدنيين، بل وفي كل الخراب الذي وقع في غزة ولبنان وغيرها، متناسين أن الاحتلال سبق المقاومة في تخريب البلاد وسفك دماء العباد.

وهؤلاء -كعادة كل مُبرِّر- يكيلون بمكيالين؛ ففي سوريا مثلًا تصبح من يسمونها "المقاومة" ضرورةً ولها شرعيتها، في حين أمام الكيان المحتل هي غير هذا.

ولا شك أن أهداف هؤلاء ليست واحدةً في الوقوف في التخندق مع الغرب والصهاينة؛ فبعضهم طائفي حتى النخاع، ولا يستطيع بلع أن المقاومة مدعومة من طرف شيعي، وبعضهم الآخر يتراكض "مع الخيل يا شُقرا"، ويطبق أيضًا المثل العربي: "الناس على دين ملوكهم"، ولا ننسى القاعدة الذهبية لدى هؤلاء: "حرمة مخالفة ولي الأمر"، حتى لو كان فاسقًا ظالمًا.

في حين أن بعضهم نخرت العمالة رأسه من يافوخه إلى أخمصه، أو كما يقول المثل العربي "من قرنه إلى قدمه"، ويتعاطى مع الدولارات كالمهووس، وقنوات العهر ومن يُستضاف فيها مثالٌ واضح لكل منصف.
وبين هؤلاء، يبرز الجهلة الذين لا يعون ولا يعرفون من الأمور إلا ما يسمعون هنا وهناك.

يُذكِّرني هذا الواقع -واقع الدفاع عن الصهاينة والتبرير لهم بالهجوم على المقاومة- بخطبة سيد الأحرار وأبي الضيم الإمام الحسين، حينما خاطب الجيش الأموي في يوم عاشوراء: "سللتم علينا سيفًا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارًا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلبًا لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلا لكم الويْلات".

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة