خالد بن سالم الغساني
في تصريحات مُستفِزة ومعبّرة عن أهداف المشروع الصهيوني ونوايا سلطات الاحتلال، أعرب المجرم نتنياهو عن ارتباطه برؤية ما يُسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، التي تشمل أجزاءً من أراضٍ عربية في سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر والسعودية، معتبرًا أن هذه الرؤية تمثل جزءًا من الطموحات التوسعية للدولة الإسرائيلية.
هذه التصريحات، التي جاءت في سياق الحرب الدائرة على قطاع غزة منذ أكثر من عامين، لا يمكن اعتبارها كلامًا سياسيًا عابرًا لمجرم حرب وفصل عنصري، وتجاوزها على أنها جزء من ممارسات الكيان المحتل ومتطرفيه في إطار حربهم النفسية المرافقة لحروبهم التدميرية والتوسعية المستمرة، أمرٌ خطير.
الأمر أعمق من ذلك بكثير، وينبغي الوقوف أمامه والتصدي له بحزم، باعتباره يعكس عمقًا استراتيجيًا يهدف إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل، مستندًا إلى أيديولوجيا صهيونية قديمة تعود إلى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل عام 1904م، الذي رسم في كتاباته واجتماعاته قبل وفاته خطة لدولة يهودية لا تقتصر على فلسطين التاريخية فحسب؛ بل تمتد لتشمل أراض عربية مجاورة تحت شعار "من النيل إلى الفرات"، معتبرًا ذلك ضروريًا لضمان أمن وتوسع الدولة اليهودية المستقبلية.
هذه الرؤية، التي طوّرها لاحقًا مفكرون صهاينة، ورددها وآمن بها وحاول ترسيخها زعماء الكيان المحتل ومساندوه، تبدو اليوم وكأنها بدأت تتحقق عمليًا من خلال سياسات نتنياهو، الذي يواجه اتهامات داخلية ودولية بمحاولة الاستفادة من الصراعات الإقليمية لتحقيق هذه الطموحات.
إن معنى هذه التصريحات يتجاوز الإعلان السياسي إلى إشارة واضحة لمخطط توسعي يهدف إلى ضم أراضٍ عربية، مستغلًا الضعف الإقليمي الناتج عن الصراعات الداخلية والتوترات المستمرة في بعض الدول العربية، والتي خُلقت في الأصل من قبل الحركة الصهيونية الساعية لتحقيق ذلك، وقد تكون بوابة لنفوذ أكبر.
وفي سياق الحرب على غزة، التي أسفرت عن عشرات الآلاف من الضحايا وشردت مئات الآلاف وأحدثت دمارًا واسعًا، فإن "النتن" كما يبدو يستخدم الغطاء العسكري لتحقيق أهداف أوسع، مثل السيطرة على الضفة الغربية وغزة كخطوة أولى نحو "إسرائيل الكبرى". وليس هذا النهج جديدًا، إذ سبق أن أثار نتنياهو نفسه جدلًا واسعًا بإحياء هذه الخطة، الأمر الذي يعزز معنى أن الحرب الحالية جزء من استراتيجية طويلة الأمد سعت وتسعى إليها سلطات الكيان المحتل، لإضعاف الدول العربية المجاورة وفرض واقع جديد.
الخطورة تكمن في أن هذه التصريحات لا تهدد السيادة العربية فحسب؛ بل تزيد من خطر التصعيد الإقليمي؛ فقد أدت إلى ردود غاضبة من المملكة العربية السعودية التي أكدت رفضها "الأفكار الاستيطانية والتوسعية"، وجمهورية مصر العربية التي طالبت بتوضيحات وأعلنت رفضها لأي تهديد لاستقرار المنطقة، والمملكة الأردنية الهاشمية التي حذرت من أن نتنياهو يجرّ المنطقة إلى حرب شاملة، كما أصدرت الخارجية العراقية بيانًا نددت فيه بتلك التصريحات، واعتبرتها استفزازًا صارخًا لسيادة الدول وانتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي، إضافة إلى الجامعة العربية التي اعتبرتها تهديدًا للسلم الإقليمي.
إن تحقيق مثل هذه الرؤية يعني تفكيك الدول العربية وزيادة النزاعات وتعزيز الاستعمار الاستيطاني، مما قد يؤدي إلى حروب أوسع تمتد إلى أجزاء كبيرة من دول المنطقة، ويضعف كل الجهود الدولية للسلام.
والأهم من كل ذلك أن هذه التصريحات تكشف بوضوح غطاء الضعف العربي الرسمي أمام القتل المُنظَّم في فلسطين؛ حيث تستمر الحرب على غزة دون تدخل عربي فعّال، مما يعكس تواطؤًا ضمنيًا أو عجزًا ناتجًا عن الاعتماد على الدعم الغربي والانقسامات الداخلية. وإن الأنظمة العربية، رغم شجبها للتصريحات، لم تُقدِم على أي خطوة يمكن اعتبارها موقفًا حاسمًا يدفع سلطات الكيان إلى إعادة حساباته. فكل تلك المواقف، كالعادة، لم تتجاوز الكلمات، مما سمح باستمرار الإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية تحت غطاء "الدفاع عن النفس".
هذا الضعف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتوسيع نطاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإدراج دول رئيسية في المنطقة تحت ضغط أمريكي مستمر، مستخدمًا شعارات السلام واستتباب الأمن كغطاء لتعزيز النفوذ الإسرائيلي وتمرير مخططاته التوسعية.
ودعوات التطبيع التي روّجت لها إدارة ترامب وسخّرت إمكانياتها السياسية والدبلوماسية لتنفيذها، تهدف إلى عزل القضية الفلسطينية وإضعاف المقاومة؛ مما يعزز من خطورة تصريحات نتنياهو بجعلها تبدو قابلة للتنفيذ في ظل غياب رد عربي موحّد. أما الرأي العام العربي، فرغم رفضه للتطبيع، يواجه قمعًا من الأنظمة التي تفضّل الاستقرار الاقتصادي على الدفاع عن السيادة، مما يُعمّق الشعور بالخيانة ويفتح الباب أمام توسع إسرائيلي أكبر.
أمام هذه الخطورة والضعف الرسمي، يتعين على المقاومة الفلسطينية -والعرب عمومًا- اتخاذ خطوات حاسمة لتجاوز هذا الواقع بعد هذه التصريحات الخطيرة. فبالنسبة للمقاومة الفلسطينية، يجب تعزيز الوحدة الداخلية بين الفصائل وتشكيل جبهة موحّدة تركز على المقاومة المسلحة في غزة والضفة، مع الاستفادة من الدعم الشعبي العالمي عبر حملات إعلامية تكشف الطموحات التوسعية الإسرائيلية والضعف العربي. كما يمكن تعزيز القدرات العسكرية من خلال تطوير أساليب حرب غير تقليدية، مثل الهجمات الإلكترونية والصواريخ بعيدة المدى، لردع أي محاولات احتلال إضافية، إضافة إلى بناء شبكات دعم شعبية عربية تتحدى التطبيع.
أما العرب على وجه العموم، فيتعين عليهم تعزيز التضامن الشعبي من خلال حملات مقاطعة اقتصادية لإسرائيل والدول الداعمة لها، مع دعم المقاومة، إضافة إلى تنظيم احتجاجات دولية للضغط على الحكومات الغربية والعربية لوقف التطبيع وفرض عقوبات على إسرائيل.
أما الأنظمة العربية، فإنها مُطالَبة -وبقوة- بتجاوز التصريحات الشجبية إلى إجراءات عملية، مثل تعليق أي اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل وإعادة النظر فيها شرطًا لحل الدولتين، وتشكيل تحالف عسكري إقليمي للدفاع عن الحدود، ورفع قضايا في المحاكم الدولية مثل محكمة العدل الدولية لإدانة الاحتلال وجرائم الإبادة اليومية في غزة، إضافة إلى دعم مبادرات دبلوماسية لإحياء عملية السلام على أساس قرارات الأمم المتحدة، وقطع العلاقات مع الدول التي تروّج للتطبيع دون ضمانات فلسطينية.
إن مواجهة خطة هرتزل، التي يعمل نتنياهو بإصرار شديد على تنفيذها اليوم مستندًا إلى الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي اللامحدود من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب الاستعماري، واتكاءً على الوهن العربي البيّن، يتطلب وحدة عربية حقيقية تجمع بين المقاومة والدبلوماسية والضغط الشعبي، للحفاظ على السيادة العربية، ووقف عمليات القتل والتدمير في فلسطين، ومنع توسع الاحتلال الذي يهدد الاستقرار الإقليمي بأكمله، مع التركيز على بناء قوة اقتصادية وعسكرية مستقلة تتجاوز الاعتماد على الغرب.
وقديمًا قالوا: "إن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة".. فمتى تكون البداية، إن لم تكن أمس؟!