السياسة الاجتماعية في العهد الجديد

د. عبدالله باحجاج

نتناول قضيَّة تعميم إلغاء ربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات من منظور تأثيره على السياسة الاجتماعية، في ظل نهضة تتأسَّس على فلسفة ورؤى وإستراتيجيات تأخذ صفة التجديد لنهضة المؤسس الراحل -طيَّب الله ثراه- فكل شيء يحدث الآن ينبغي أن يكون جزءا أصيلا من هذا التأسيس، تحضيرا وتهيئة أو تناغما وتعزيزا، وإلا يستوجب التراجع عنه فورا، كما أن أي قرار أو قانون لن يكون مُحصَّنا وملتزما بأهداف النهضة المتجددة ما لم يصدر عن المؤسسات والشراكات دون إقصاءات أو مخاطبات فوقية.

من هُنا، سنُحاكم التعميم، مستشهدين بالأرقام والأهداف الاجتماعية لرؤية عُمان 2040، وبحجم الرواتب في القطاع الخاص في ظل قانون ربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات، وفتح الفكر للتصوُّر في مآلات مستقبل الرواتب، إذا ما طبق تعميم الحد الأدنى للأجور عند 325 ريالا. من هنا، نتساءل: هل التعميم يخدم السياسة الاجتماعية لرؤية "عُمان 2040"؟

من المعروف أنَّ السياسة الاجتماعية تعدُّ أداة الحكومة في كسب المجتمع وتماسكه، وتعزيز ولاءاته وانتماءاته، وديمومة استقراره وأمنه، وتعرف هذه السياسة بالخدمات التي تُقدِّمها الحكومة للمجتمع؛ مثل: التوظيف، والتعليم، والصحة، والمسكن، والحماية الاجتماعية...إلخ. وبهذا التعريف، فإنَّ إلغاء ربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات يمس جوهر السياسة الاجتماعية لرؤية 2040.. كيف؟! لأن هذه الرؤية تستهدف "مُجتمعا إنسانه مبدع عبر التعليم الشامل المستدام، والنظام الصحي الرائد بمعايير عالمية، ومجتمع معتز بهويته وثقافته، وحياة كريمة مستدامة للجميع"، كما تستهدف اقتصاد المعرفة، وتراهِن على أنْ تكون بلادنا ضمن الدول العشرة الكبرى، فكيف نصل لاقتصاد المعرفة، والتعميم يؤسس للرؤية -قبل انطلاقها- سيكولوجيات ضد التعليم عبر إسقاطه لمفهوم الخبرة المعرفية التي تُنتجها الشهادات، ويتساوى من معه تعليم من عدمه؟ وكيف نصل للحياة الكريمة المستدامة براتب حده الأدنى غير آمن؟

ويدغدغ العواطف الآن تصريحات بتغييرات مقبلة، تتعلق بسقف التعمين والإحلال تحت هاجس توفير فرص العمل دون الاعتداد بعائدها المالي الآمن. والتساؤل هنا: هل يتوافر لدينا قطاع خاص قادر على استيعاب المزيد من الباحثين عن عمل؟ سيتم تعزيز دغدغة المشاعر بوجود مليون و400 ألف فرصة عمل يشغلها الوافدون، غير أن هذه الدغدغة قد فندتها تعقيبات مليونير عماني؛ وذلك عندما أوضح أنَّ هناك 10% من الشركات فقط مشغِّلة للعمانيين، معظمها وصلت لطاقتها الاستيعابية، ولا يمكن أن توفر المزيد من الوظائف.

ولن يكون بمقدور 90% من الشركات التي اغلبها صغيرة ومتوسطة ومستترة أن توظف الكثير من الباحثين عن عمل، وبذلك الحد الأدنى للأجر، فكيف يراهن التعميم على الشركات وهى بهذا الخلل في تركيبتها؟! وحتى الـ10% من الشركات تريد أن تتنصل من مسؤوليتها الاجتماعية الوطنية، فقد برز بعض مليونيراتها الآن، يدافعون بشراسة عن التعميم، ويعلم الكل أنَّ الكثير من هذه الشركات تأسست من الأموال العامة ومن الاحتكارات.

هذا المشهد يقودنا لاستنتاجات موضوعية؛ وهو أنَّ الهدف من التعميم إلغاء قانون الحدود الأدنى للمؤهلات، وجعلها حدًّا واحدًا، وفي أدناها، بدليل عدم البحث في مدى ملاءمة الحد 325 ريالا مع عصر الضرائب أو دولة الجبايات؛ فهل نؤسس بهذا الحد الأدنى العيش الكريم المستدام للمواطن؟ لذلك نميل للاستنتاج بأن التعميم قد يكون وراءه حسن نية في اتخاذه، لكنه مدفوع إليه بسوء نية.

ونميل بهذا التحليل، إلى أن التعميم يهيئ الأرضية لانطلاقة مسيرة استثمارات رؤية "عمان 2040"، على اعتبار أنه ليس لدينا قطاع خاص يمكن أن يستوعب الآن 100 ألف باحث عن عمل، أو حتى نصفه أو ربعه؛ لذلك أمعنوا التفكير في حل إشكالية الرواتب للاستثمارات الجديدة، فكما نعلم أن 80% من استثمارات "رؤية 2040" تعتمد على الاستثمارات الخاصة، ونعلم كذلك أن هناك مشاريع ضخمة ستقام تنفيذا للرؤية؛ لذلك فُصِّل الثوب الاقتصادي الملائم لها، والذي هو هنا 325 ريالا، وهذا لن يتأتى إلا عبر العزف على وتيرة الخبرات دون الشهادات، مُتجاهلين أو قافزين على الخبرة المعرفية التي تنتجها المؤهلات.

وهناك حجية يعتمدون عليها لتغيير القانون، وهى أنَّ بعض الباحثين عن عمل يوافقون بوظائف رواتبها أقل من مستحقات مؤهلاتهم، والقانون لا يسمح، وحجية أن هناك واحدا أو اثنين من أعضاء سابقين من مجلس الشورى -من رجال الأعمال- يساندون هذا التوجه، فهل يعقل أنْ يتغير القانون بمثل هذه المواقف؟ هذا يخرجنا عن العمل المؤسساتي وأهدافه، وسيدخلنا في الفردانية والاستفراد اللذين لا يخدمان مجموع المصالح في البلاد، بل ويمس جوهر "رؤية 2040"، التي تنص على الشراكة وتكامل الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع، وهذا ما نجده في إقصاء شركاء قانونيين ودستوريين.

وقد كان الوزير السابق لوزارة القوى العاملة -التي تغيرت إلى وزارة العمل- واضحا وواعيا بهذه القضية، عندما فتح أحد أعضاء مجلس الشورى هذه القضية -وهو في الأصل رجل أعمال- فرمى الكرة في ملعب مجلس الشورى، قائلا لهم إذا رأيتم تغيير الحد الأدنى لأجور المُؤهلات، فينبغي أن يأتي ذلك كمطلب من مجلس الشورى، أي أنه لم يعتد بمطالب التغيير الفردية؛ لأنَّ التغيير المبني على الفردانية أو الفئوية لن يصنع الاستقرار أو يُحافظ عليه، ويقصي العمل المؤسساتي، ومن ثم لا يمكن أن يلغي قرار تعميم، ولا سلطة دنيا لأفعال سلطة عليا، ولا أن تتجاوز صلاحيات مقرة قانونا، خاصة الآن ونحن في مرحلة تأسيس نهضة متجددة.

ولو لَجَأنا لمُقارنة الرواتب بين قانون ربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات مع مآلات الرواتب بتعميم الحد الأدنى 325 ريالا، فهل نتوقَّع ارتفاعَ الرواتب إذا افترضنا وجود استيعاب لأعداد كبيرة من الباحثين في القطاع الخاص؟ وجدنا في الإحصائيات المنشورة اختلالات في الرواتب؛ مما يَجعلنا نتوقع تعميق الاختلالات مستقبلا، وتأملوا في حجم الرواتب الضعيفة وأعدادها الكبيرة حتى نقف عند ما يُقلقنا مستقبلا، والإحصائية قد نشرتها إحدى الصحف الرسمية نقلا عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات. تُفيد هذه الإحصائية بأنَّ أكثرَ من نصف العمانيين العاملين في القطاع الخاص والمؤمن عليهم يتقاضون راتب 499 ريالا وأقل، بنسبة 51.8%، وبلغ عددهم حوالي 133 ألف عامل وموظف من إجمالي نحو 258 ألفا، بنهاية أبريل 2019، وهناك أكثر من 77 ألف عامل عماني يتقاضى كل منهم راتبا يتراوح بين 325 ريالا إلى أقل من 400 ريال، كما يتقاضى حوالي 56 ألف عماني راتبا يتراوح بين 400 ريال وأقل من 500 ريال عماني. فيما بَلَغ عددُ العُمانيين الذين يتقاضون راتبا يتراوح ما بين 700 إلى أقل من 800 ريال حوالي 13 ألفا تقريبا، مثلوا ما نسبته 5 في المئة تقريبا من إجمالي عدد العاملين في القطاع الخاص. أما العُمانيون الذين يتقاضون راتبا يتراوح ما بين 600 ريال إلى أقل من 700 ريال، فقد بلغ عددهم 22.7 ألف عماني، ما نسبته حوالي 9 في المئة من إجمالي عدد العاملين في القطاع الخاص. وبلغ عدد العمانيين الذين يتقاضون راتبا يتراوح ما بين 500 ريال إلى أقل من 600 ريال 28 ألف عماني تقريبا، ما نسبته حوالي 11 في المئة من إجمالي عدد العاملين في القطاع الخاص.

وتلكم رواتب الأغلبية في القطاع الخاص في ظل قانون يربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات؛ فلنا تصوُّر المآلات بعد توحيد الحد الأدنى للرواتب عند 325 ريالا؟ وهذا الحد الأدنى للأجور يُؤسِّس لجيل النهضة المتجددة، فهل وراءه استشراف سياسي؟

المنطق الأصح والملائم في حالتنا العُمانية، هو "البناء على الواقع" عبر الدفع بما يُمكن تعمينه وإحلاله في شركات القطاع الخاص بعد تدخلات الحكومة في مجال التدريب والتأهيل لتهيئتهم للعمل، وكذلك طرق أبواب الشركات الحكومية والمساهمة وقطاع النفط والغاز وفتح أبواب التجنيد لاستيعاب أعداد الباحثين، وفي الوقت نفسه، النظر للمستقبل القريب، عبر إقامة مشاريع اقتصادية بتمويلات صناديق التقاعد والمؤسسات المالية في البلاد منتجة لفرص العمل. أما منطق "هدم الواقع المكتسب، والبناء على أنقاض المواطن بسياسة الإلزام والإقصاء"، فذلك طريق محفوف بالمخاطر، وسيتضرر منه الاستقرار والتماسك الاجتماعي.