خمسون بعبدالناصر وبدونه

 

 

غسان الشهابي *

لا تمرُّ ذكرى رحيل جمال عبدالناصر إلا ويبدأ الفريقان (مع وضد) في سردياتهما بشأن مميزات ومثالب الرجل، وما فعله وما كان يجب عليه فعله، ومسرد طويل من الإنجازات بل و"المعجزات" من نظر مؤيديه، والخيبات والأخطاء، بل والخطايا من وجهة نظر معارضيه.

وإذا كانت الحال هكذا كل عام، بل في العام الواحد يتكرَّر الموقف نفسه أكثر من مرة (ميلاده في يناير، والثورة في يوليو، والتأميم، والعدوان الثلاثي، وهزيمة يونيو، وأيلول الأسود، ووفاته) وما لا يسع المجال لذكره؛ فـ"روزمانة" عبدالناصر متخمة بالوقفات التي ينبري فيها الفريقان ليمارسا هوايتهما، أقول إذا كانت الحال هكذا، فكيف بمرور الذكرى الخمسين لوفاته هذا العام، وهي من الأمور التي لا يمكن أن يفوّتها الطرفان لغرامنا بالأرقام، خصوصاً التي تشكل "يوبيلًا" موحيًا بالحديث عن واقعة أو شخصية؛ فكيف والحديث عن شخصية في حجم عبدالناصر نفسه.

ومهما حاول الموالون تعظيمه، بل وربما الاقتراب به إلى مرحلة التقديس، ومهما حاول معارضوه تحطيم صورته، وجعلوا منه والشيطان صنوان، وكالوا له التهم وكل خراب حل بمصر والأمة العربية؛ إلا أن الثابت أن عبدالناصر شخصية مؤثرة في الطرفين إلى الحد الذي لا يمكن نسيانه أو تجاوزه على الرغم من مرور نصف قرن، وعلى الرغم من تحولات الحياة السياسية التي فارقت النهج الناصري، والتي لم يبق منها شيء تقريباً إلا إجازة في مصر يوم الثالث والعشرين من يوليو من كل عام، وعلى الرغم من أنَّ الكثير من الأنظمة العربية كانت معادية له، إما لأنها على خطّ لا يتوافق مع خطه، أو لأنها كانت تحت الاستعمار فلم تتفاعل معه في حياته، إلا أنه لا يزال يشكل "حالة" من العزة والأنفة، ولا يزال يعبِّر عن كرامة الإنسان العربي، ولا يزال يُنظر إليه -من قبل مؤيديه بالطبع- على أنه ما ينقصنا في هذا الزمان المتردي سياسيًّا.

جمال عبدالناصر؛ سواء كان جباراً شقيًّا، أم قائداً فذًّا، وسواء كان طاغية، أم كان ضحية مؤامرات طغاة، وسواء كان هو من ريَّف المدن أم هو من نشر التعليم المجاني بالشكل الذي أنبت من مصر الكثير من العلماء والمثقفين، وسواء كان هو قيل إنه أدخل مصر في متاهات الحروب الخاسرة، بل إنه لم يفز بحرب واحدة في حياته، أم قيل إنه هو من وضع أسس الانتصار في حرب 1973 عندما أعاد بناء الجيش بعد 1967، وأن ما فعله المصريون في تلك الآونة (حرب الاستنزاف) كانت أكثر إيلاما وإيجاعاً مما لو تقابل جيشان غير مُتكافئين في العتاد والتدريب، وسواء قيل عنه ما يمكن أن يقال من الطرفين، إلا أنَّ الرجل لا يزال باقيا في وجدان الكثير من شعوب الأمة العربية، ربما يجهله الكثير من الشباب والناشئة، ولكن أن يبقى رئيس عربي في وجدان ملايين العرب، حباً وبغضاً، فيما زال من زال من الذاكرة، ومن الصعب أن يسترجع الكثير من أبناء الأمة العربية رؤساء دول أخرى وعصرهم، فهذا أمر يحتاج إلى دراسة، ما الذي فعله عبدالناصر ليخلد هكذا في الوجدان ويبقى علامة فارقة في الأذهان؟!

 

* كاتب بحريني