ناجي بن جمعة البلوشي
دائماً ما تكون السلطة الرابعة في دول العالم المُتحضِّر هي الوسيلة الجرئية والسريعة التي تتجاوز كل حدود الطبطبة والتعاون مع الفشل وتغطيته، فهي مجهودات عقول مفكرين استطاعوا أن يبحثوا في تجاوزات وأخطاء المسؤولين والموظفين والأشخاص المناط بهم حمل الأمانة، وذلك لمساعدتهم في أن يحدوا من زيادة الأخطاء والتوقف عندها وتغييرها لأنها ربما خرجت من قسم أو إدارة أو جهة لم يتمكن فريق المسؤول الأول من دراسة كل ما فيها، أو أن بها شيئا آخر من الأسباب التي قد تخلي مسؤوليته عنها، أو لإبراز وجه الرقابة أمام جميع من تسول له نفسه عدم المحافظة على المصلحة العامة والمال العام.
هؤلاء المفكرون الذين يكونون على نموذج صحفيين وكتاب ومؤلفي كتب هم في الحقيقة مفكرون يفكرون في المشاكل ثم يضعوها أمام واقع الحلول لأجل الاستفادة العامة للدولة فهم يعملون للمصلحة العليا دائماً، ومساعدتها على وضوح تلك المشاكل أمام مرئ كل مختص ليتمكن من حلها هو وفريق عمله المخلص أو وضعها على كف من ذهب لكل مسؤول بالمراقبة والقرار، أو تكون مشروع فكرة للجهات المختصة تستعين بها لإيجاد الحلول.
هؤلاء المفكرون تجد أفكارهم يُعمل بها في دول كثيرة من العالم المتحضر لأنها أفادت الدولة ولم تفد المسؤول والموظف فيطلق عليها في الاقتصاد معنى الاقتصاد السياسي ويطلق عليها في متغيرات المجتمعات الدراسات الاجتماعية ومثل هذه المسميات المفيدة للدولة والمُجتمع.
هذا النموذج من الاستفادة هو حال اعتادته الدول التي تتجاوز كل مِحنها وعقبات بلوغ التنمية والتطور فيها باستعانتها بكل أساليب الحلول ومصادرها دون تركها لشخص وشخصية ليكون هو الحكم والعقل والفاهم والمنصف... إلخ. إلا أنَّ هذا النموذج الذي تعتمده دول التطور الحضاري يبدو سخفياً في دول المنطقة العربية؛ فالكراسي والمناصب والمكانة المُجتمعية لا تترك مجالاً لأمثال أولئك المفكرين في إبراز أفكارهم؛ فالسلطة قلصت كل أفكارهم ونواياهم حتى صار حاجزا لهم مفاده ممنوع أن تتفوه بأي شيء مخالف للعادة. هذه السلطة التي كانت الرابعة في زمانها الذي كانت هي عليه بدأت تتراجع وتتمحور إلى الناطق باسم سلطات المناصب والكراسي والمكانة الاجتماعية، فالسلطة الرابعة التي يظن الآخرون أنها قامت من أجل المصلحة العليا للدولة بدأت تتناول شخوصا وشخصيات تملأ بهم مسامع وأعين المتابعين فتضعهم في أعلى المراتب أو أدناها، وعلى هذا النحو تكونت الإعلامات العربية العاملة اليوم.
فمنذ أن اختارات حكومات الدول العربية الإعلام الحكومي عوضا عن إعلام الدولة فهي تسير فيه كل يوم في توسع وانتشار، كما أن الإعلاميين أنفسهم يعملون على نفس الطريقة والمنهج وهذا لأنهم تحولوا إلى أدوات فعالة للإعلام الحكومي.
مع أن الفرق بين الاثنين بسيط في المسمى لكنه بعيد في الأهداف؛ فالأول- أي إعلام الحكومة- يكون في صالح الحكومة التي يمثلها أناس سيمكثون في مناصبهم ومكانتهم وقتاً من الزمن ويكونون على أفضل حال دائماً حتى في أخطائهم وعثراتهم كخروج بعض القرارات خارج حدود صلاحياتهم ودستوريات النظام أو يكونون على أسوأ الأحوال في الأداء والتقدير دائماً لأنهم خارج وبعيدا عن العمل المناط إليهم فعلا.
بالمقابل تجد المنتسبين إلى الإعلام الحكومي هم شخوص من الإعلاميين الراغبين في إظهار أسمائهم ومصالحهم، فتجد منهم من ينتقد الشخصية المسؤولة لأسباب خارجة عن باب النقد البناء ولمجرد فقط مصالح خاصة ولأنه ليس من فصيله أو من الحزب المنتمي إليه أو الأفكار التي يروج لها أو غيرها من الأسباب المتعددة، فتجد أنَّ الإعلام الحكومي يقوم به ذلك المنتقد الشخصي والصحفي الانتهازي والكاتب المصلحجي، فلا ضير أن تجد المذيع يُعلن قرار منع وهو أول الفاعلين له، ولا يتغير في بالك ظن أن تجد إعلاميا يظهر مظاهر الوطنية الخالصة للوطن بفتح باب الفتنة مع دول أخرى أو في انتهازية التعصب الديني أو العنصرية الماكرة أو تجد دولة أو شخصية إعلامية تصب باب عملها وجهود مؤسستها في برنامج خارج إطار الزمن والواقع، ومثل تلك الأمثال كثيرة إذا بحثت عنها وستجد منها الكثير.
أما إذا أردنا أن نعرف إعلام الدولة فهو ذاك الذي يكون في صالح الدولة التي هي باقية إلى يوم القيامة، هكذا يجب أن يكون تعريفه وفكر كل منتسبيه، ولأن هذا التعريف يبدو متكلفاً به وثقيل الفهم إلا أنه المتوجب الاقتناع به، فلا نميل إلى المنصب ولا نفكر في الاسم دون مصلحة الدولة العليا ولا يمكن لنا أن نكون خارج إطار الزمن والواقع الحقيقي أو بعيدا عن النهضة، كما علينا أن نحترم المخلصين والقادة، والمسؤولين، والدول والفكر والأديان والأجناس وغيرها، فننتقد أخطاءهم التي بها الكثير من البراهين لا من مجرد زوبعات خاطفة.
لكن هذه الفرصة كانت مُتواجدة في زمن غير هذا الزمن ولأن الفرص لا تعود من جديد والزمن لا يتراجع إلى ما قبله، فإنَّ الدول العربية خسرت إعلام الدولة وإعلام الحكومة معاً بسبب ما تناقضت فيه مصالحها فالمنتسبون لهم مصلحة والحكومة لها مصلحة أخرى، مما أدى إلى فشل الإعلاميين في دولنا ولم يعد لها مهتمون فلا نحن على إعلام الحكومة ولا على إعلام الدولة.
لهذا ظهر الإعلام الموجه وهو الذي حلَّ محل الإعلاميين وأخذ منهم المتابعين إلى أحضانه، فاليوم هناك إعلام يجند الجنود الإرهابيين واللصوص المحترفين وتجار الممنوعات ومتسكعي الطرقات... إلخ، وهناك إعلام يحرض الشعوب على الحكومات وإعلام يبيع المفاتن وإعلام يبث الرذيلة وإعلام يبيع الهوى والغواية وغيرها من أنواع الإعلام الموجه التي تترعرع في بيئتنا العربية الحاضنة لكل تلك الأنواع من الإعلام، والتي يرى المتابعون في وجودها سداً لثغرات ما كانوا يبحثون عنه في إعلاماتهم التي جعلت من الجميع باحثاً عن شيء كان يبحث عنه الجميع.
وعلى الرغم من قوة هذا الإعلام إلا أن هذا الإعلام أيضا لم يمكث على حاله، لقد فقد شيئاً من بريقه وقوته عندما ظهر الإعلام الجديد والمتطور والأسرع على الإطلاق والذي تعدى كل أنواع الإعلامات، هذا الإعلام إذا أردنا أن نعرفه سنقول إنه إعلام يعنى بالإعلام الشخصي أو أنه إعلام الأفراد وهو ما زاد الطين بلة والحال سوءًا، فالفضاء مفتوح لكل شخصية وشخص كائن من يكن، خير به أم شر، حسن الإخراج أو سفيه الإخراج، ملحد في الدين أو جاهل به أو متبغض عليه أو عارف به، فيه من كل أنواع التوجيه والتحريض والسخف والاستهتار والفتنة والقبول والكره والرغبة والرفض... إلخ، وهو ما تعول عليه دول العالم المتحضر اليوم في نسف وإنهاء ومسح دول من الوجود مستقبلا، ولعلها تكون رسالة لمن يريد أن يفهم؛ فاليوم لا سلطة رابعة ولا منفعة للمصلحة العليا؛ بل اليوم فقط التفكير في كيفية دفع النقمة عن المصلحة العليا إن استطاعت الدول والسلطات فعل ذلك.