جمال الكندي
لم يشهد الصراع العربي الإسرائيلي ما يشهده اليوم من انتكاسة سياسية وغياب وحدة القرار العربي وهذا كان واضحاً منذ الربيع العربي، فمن خطط لخريف الدم العربي أراد أن يتخلص من الدول التي كانت عائقاً أمام تحقيق أهداف السياسة الصهيونية والأمريكية في منطقتنا العربية، وكانت حسب المنظور الأمريكي تُهدد أمن إسرائيل.
هذا التهديد لا يعني التهديد الوجودي بأدوات عسكرية، بل كان حتى بأدوات سلمية تحت عنوان "الأرض مُقابل السلام" وحق الدولتين، أي دولة فلسطينية ذات سيادة مُستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
هذا العنوان حاولت وما زالت أمريكا وإسرائيل تحاول إزالته من العقل السياسي العربي، ولتحقيق ذلك كان لابُد من إزالة الأصوات الفاعلة والمُؤثرة في الجامعة العربية التي تنادي بهذا الحق، وأن يحل محلها أصوات تتبنى ما يُسمى "بصفقة القرن" وهو العار بكل أشكاله والخيانة بكل معانيها للقضية الفلسطينية.
إنَّ أكبر مشاكل إسرائيل وأمريكا وجود أصوات فاعلة وقوية في الجامعة العربية تدافع عن الحق الفلسطيني بأن تكون له دولة مُستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967. فهذا الأمر كان يلقى إجماعاً عربياً متسلحاً بقرارات الأمم المتحدة الداعمة لهذا الحق فبه فقط يتم تعزيز السلام في المنطقة، هذه الأصوات كانت هي العائق أمام تحقيق ما يسمى "صفقة القرن"؛ فالجامعة العربية كانت لها مواقف قوية وثابتة تجاه القضية الفلسطينية قبل أن يتم إضعاف الأصوات الفعَّالة والقوية فيها، ونذكر منها قمة الخرطوم أو ما تسمى قمة "اللاءات الثلاثة" في 29 أغسطس 1967 أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهي "لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض" مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه. وقمة 2002 وهي قمة مُبادرة السلام العربية التي كان من بنودها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وهو ما يُسمى "بحق العودة" وقد كان للرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود الدور الكبير في تثبيت هذا البند غير المرغوب أمريكياً وإسرائيلياً، حسب ما ذكره الرئيس لحود بنفسه في برنامج خاص عرض على إحدى القنوات الإخبارية عن سيرة الرئيس لحود من قيادة الجيش إلى الرئاسة اللبنانية، ومن بنودها أيضاً انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المُحتلة، والمقابل تطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل. فهل تحقق ذلك لنطبع اليوم مع هذا الكيان الغاصب؟
من أجل ذلك كان لابُد من خلخلة هذا الإجماع العربي بتغييب هذه الأصوات المُطالبة بالحقوق العربية التي تزعج إسرائيل وأمريكا في الجامعة العربية، لذلك جاء الربيع العربي بمُباركة أمريكية وأشعل المنطقة بحروب داخلية عبثية يستنزف فيها الدم والمال العربي لتحقيق المصلحة الإسرائيلية في إضعاف هذه الدولة داخلياً وخارجياً، وطبعاً المكر الغربي كان حاضراً في هذه الخطوة، والكلمات الفضفاضة التي تستعمل من أجل ذلك جاهزة مثل الحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، فركوب هذه الموجة المقبولة شعبياً هي الطريق الأمثل والأسهل لتغيير الأنظمة العربية التي تغرد خارج السرب الأمريكي.
لذلك كان شعار الربيع العربي هو "الشعب يُريد إسقاط النظام" هذا المشروع نجح بنسبة مُعينة واستطاع خرق الإجماع العربي بخصوص القضية الفلسطينية في الجامعة العربية بتغييب الصوت الليبي والسوري وغيرهما، وبتغييب هذه الأصوات يستطيع الكيان الصهيوني وأمريكا الولوج إلى جسم الجامعة العربية واستبدال ثوابتها التاريخية بخصوص القضية الفلسطينية التي أجمع عليها العرب "الأرض مُقابل السلام بـ"السلام مقابل السلام".
إنِّه مخطط مدروس بشَّرت به الإدارة الأمريكية في إيجاد "شرق أوسط جديد" تنعم فيه إسرائيل بالأمن عن طريق إضعاف خصومها من العرب في محور المُمانعة والمقاومة، وتغيير الإجماع العربي في الحق الفلسطيني بأن تكون لها دولة مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، بدويلة منقوصة السيادة عاصمتها "أبو ديس".
ما تشهده الساحة العربية اليوم من تطبيع دول خليجية، والتبشير بدول عربية أخرى على شاكلتها يوحي بنجاح مُخطط تغيير الأصوات العربية الفاعلة والمُؤثرة في دعم القضية الفلسطينية بأصوات أخرى تتبنى مبدأ "السلام مُقابل السلام"؛ وهذا يعني أننا نعطي الصهاينة سلاماً دون مُقابل!!
التطبيع الإماراتي البحريني هو تطبيع مجاني، وعندما نقول مجانياً نعني أنه لا يخدم القضية الفلسطينية بل هو في خانة المصالح الحزبية الصرفة لنتنياهو وترامب، وهو في المُقابل يخلق توترا في منطقة الخليج بسبب التصريحات التي تخرج من هنا وهناك بأنَّ هذا التطبيع موجه ضد إيران، وهذا بدوره يفتح باب عدم الاستقرار في المنطقة، لأنك ببساطة تجلب الإسرائيليين قرب الحدود الإيرانية، وتخلق جبهة خليجية إسرائيلية تجاهر بالعداء ضد إيران. وهنا نطرح السؤال الجوهري: هل تُريد أمريكا من الدول المطبعة مع إسرائيل محاربة إيران بمساعدة إسرائيلية؟ هذا السؤال يبحث عن إجابة وإجابته عند من يطبِّع مع إسرائيل فقط.
فعلاً هي لعنة الربيع العربي التي نجحت في تدمير بلداننا العربية، وخلقت المساحة المجانية لإسرائيل بالتدخل في الشأن العربي والتبشير بنظام عربي جديد محب للسلام مع إسرائيل، لكن حسب النظرة الصهيوأمريكية التي تجردنا من كل حقوقنا في الأراضي العربية المُحتلة عام 1967.
هي انتكاسة أخرى تضاف إلى قاموس الخيبات العربية تجاه إسرائيل فبعد نكبة 1948 ونكسة 1967 تأتي "صفقة القرن" كهدف استراتيجي تعمل أمريكا على تحقيقه، من خلال تغيير الثوابت العربية تجاه القضية الفلسطينية، والأهم من ذلك تغيير قاعدة "الأرض مُقابل السلام"؛ وهذا ما أصبح واقعاً ملموساً بتطبيع دولتي الإمارات والبحرين مع إسرائيل وتبجح نتنياهو بأنَّه سلام من أجل السلام، وشرط الأرض مقابل السلام أصبح من الماضي ولا يلقى الإجماع العربي الذي كان قبل 2011، وكلما زادت الأرقام المطبعة مع إسرائيل وفق هذا المبدأ يتلاشى مبدأ "الأرض مقابل السلام"؛ وهذا هو المطلب الصهيوأمريكي.
فهل سنكون أرقاماً يتباهى بها نتنياهو؟ أم نُدرك أنَّ السلام مع إسرائيل خارج مقررات مبادرة الجامعة العربية عام 2002 لا يخدم السلام والاستقرار في المنطقة، ويصب في مصلحة الكيان الصهيوني فقط؟!