د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
نشكو إعلامنا، ونُحمله مسؤولية تردي أوضاعنا، وتعميق خلافاتنا السياسية والدينية والمذهبية والقبلية، وإفساد ذات بيننا وترسيخ الكراهية في مُجتمعاتنا، نتهمه بترويج العُنف والغلو بين شبابنا، وتزييف وعي الرأي العام وإشغاله بقضايا خلافية عن قضاياه الرئيسة.
لا نلمس دوراً فاعلاً لإعلامنا في تنمية الثقافة المدنية، ومفهوم المُواطنة، وثقافة الاختلاف والحوار، وقبول الآخر. إعلامنا دعائي لنظامه السياسي، تمجيدي للذات الوطنية، تعصبي للقبيلة والطائفة، إقصائي للآخر، يخاطب عاطفة الإنسان العربي لا عقله، يُثير مشاعره تجاه المخالفين لسياسة دولته أو دينه أومذهبه، يفتقد الموضوعية، ولا يقول الحق إذا كان عليه .
في المُقابل، هناك من يرون أنَّ الإعلام مفترى عليه، وفي تحميله وزر معاناتنا ظلماً، وحجتهم أن إعلامنا ماهو إلا خطاب يعبر عن أحوالنا، ومرآة تعكس أوضاعنا، فهل نلوم المرآة إذا كان الواقع المعاش مريراً؟!
لعل في حجة هؤلاء منطقا، إذا اقتصر دور الإعلام على مجرد نقل الأحداث والمعلومات وتحليلها، لكن الإعلام ليس مجرد مرآة عاكسة، بل له دور أكبر وأخطر، الإعلام رسالة لتثقيف الإنسان وتنويره ورفع وعيه وتعزيز المبادئ والقيم الإيجابية ومحاربة الظلم، وكشف الفساد، والدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه وكرامته.
الإعلام يشكل الوجدان، ويصيغ العقول، ويُرشد التوجهات، ويصحح انحراف السلوك العام، ويصنع السلام والحرب في العقول، ويرسخ نوازع الخير والشر في النفوس.
الخطاب الإعلامي الإنساني كما تجسده القناة الفضائية الألمانية "DW" الناطقة بالعربية يترجم "قل الحق ولو على نفسك"؛ حيث إنني أتابع برامج هذه القناة من وثائقيات استقصائية، ومُقابلات، وحوارات، وندوات، والعولمة 3000، و"عن كثب"، ولست إعلامياً مؤهلاً لتقييم خطابها الإعلامي، لكن انطباعي كمشاهد لبرامجها يُؤهلني للقول إن السمة العامة للرسالة الإعلامية للقناة، تتمثل في الانتصار للإنسان، والانحياز لحقوقه، والدفاع عنه، وخاصة الإنسان الضعيف المنتهك الحقوق والمستغل من قبل الشركات الرأسمالية الكبرى، وكشف الحقائق ولو تعارض مع مصالح شركات بلادها وسياسة حكومتها، وهي بذلك تجسد بحق مقولة سقراط "قل الحق ولو على نفسك".
الملامح العامة لهذه الرسالة تتلخص في الآتي:
أولاً: الدفاع عن الإنسان المنتهك الحقوق، أينما وجد، وحمايته من الاستغلال الاقتصادي البشع الذي تُمارسه الشركات العالمية العابرة للقارات (ومنها الشركات الألمانية) للعمالة الفقيرة في قارات العالم بما فيها أوروبا. تعطيهم قوتا لا يموت وتكسب هي الأرباح الفاحشة.
ثانياً: تقوم، بمهنية عالية، بفضح انتهاكات تلك الشركات لحقوق الكادحين من الفقراء والضعفاء والمهمشين، عبر تتبع نشاطاتها في بلدان العالم (بخاصة الشركات الألمانية) وتسليط الأضواء على انحرافاتها، والتسجيل التوثيقي لما يتعرض له هؤلاء البؤساء من ظلم واستغلال واستعباد، وذلك عبر مختلف برامجها: الوثائقيات الاستقصائية، العولمة 3000، عن كثب، وشبكة مراسليها في دول العالم، وهي في هذا الجهد الاستقصائي الضخم تمثل جهازاً رقابياً فاعلاً، يُعزز قوة منظمات المُجتمع المدني الألماني في مُراقبة أداء شركاتها الوطنية، إذ لا تكتفي بمساءلة كبار المسؤولين في هذه الشركات، بل تعمد إلى ملاحقة الوزير المسؤول عن التراخيص ومحاصرته وكشف تواطئه أو سكوته على تحايلات هذه الشركات على القانون لتضخيم أرباحها.
انظر على سبيل المثال إلى موقع يوتيوب، الوثائقيات الاستقصائية للقناة الألمانية مثل "الناس والتجارة والأسواق في غانا.. وكيف يتم استغلال مزارعي الكاكاو"، و"الطماطم والجشع.. كيف تعمل الشركات العالمية على تدمير صناعة الطماطم"؛ "ذهب غانا الأحمر، والقضاء على عيش المزارعين الذين يضطرون لترك الزراعة والهجرة عبر الصحراء والمتوسط والتعرض لمخاطر الغرق والهلاك؟ و"عبودية في إيطاليا: عمال جني أم عبيد؟"، و"رصاص بالدم.. الأطفال ضحايا الجشع العالمي للمواد الخام المستخرجة من مناجم أمريكا الجنوبية"، و"عبودية جديدة.. حول استغلال العُمال الهنود في إيطاليا"، و"تايلنديون في السويد" موسم حصاد التوت البري.. فرصة أم استغلال؟، و"العولمة 3000: حول اضطرار آلاف الهنديات الفقيرات لاستئصال أرحامهن لكي لا تُعطلهن العادة الشهرية عن العمل في مزارع القصب!"، و"الإطارات القذرة" تجارة بمليارات الدولارات، ضحاياها آلاف التايلنديات العاملات في جمع المطاط في ظروف مزرية، وللحديث بقية...
** كاتب قطري