المسرح المُغيَّب

 

جيهان رافع

يقول المسرح: ها أنا هنا، لكن أين أنتم؟

المسرحي يتساءل: أنا اخترت خشبة المسرح طموحًا لي، فهل سيُقصَل عنقَ أحلامي على نفس الخشبة؟ وهل سأجد لقمة عيشي، أم أنها ستخور قواها وهي تنتظرني؟

أوَّل مسرح في التاريخ ظهر في اليونان، منذ القرن السادس قبل الميلاد، ويعد كتاب أرسطو "فن الشعر" أول كتاب لشعرية المسرح، وسُميَ بالمسرح التراجيدي من فن الديثرامب، وهذا الفن اشتُهر بتمجيده للآلهة ديونيوزس بالأناشيد الشعرية، وكان على شكل فُرجة واحتفالات؛ كما أنَّ هناك مخطوطة مصرية دلت على قيام مسرحية دينية جسَّدت قصة الإله أوزوريس وبعثه، وهو المكلف -حسب الأساطير الفرعونية- بمحاكمة الموتى.

من أشهر ما قيل في المسرح: "أعطني خبزًا ومسرحًا أعطيك شعبًا مثقفًا"، ومن نفس المبدأ قيل أيضًا: "أعطني مسرحًا أعطيك أمّة".

وقال أرسطو: إنّ لدى الناس غريزة التشخيص؛ فهو من هذه الناحية يختلف عن الحيوان، كما أنه الأكثر قدرة على المحاكاة، وأنه يتعلم دروسه عن طريق التشخيص، وهذه هي الناحية الثانية التي يختلف بها عن الحيوان أيضًا، كما أن لديه غريزة التمثل منذ الصِغر، وإن المتعة التي يحصل عليها من هذه العملية هي تحول الحياة إلى مسرح.

فأين نحن في هذه الأيام عن تجسيد مسرح الحياة على خشبة مسرح ترتقي بطموحات جمهورها والممثلين؟!

لقد عشقها بعض الأشخاص الذين رفعوا سقف طموحاتهم لترتقي إلى بهاء هذه الخشبة، وأين نحن من طموحات هؤلاء الذين تَعِبوا وكدّوا لينقلوا لنا مشاهدة تتخطى حدود المنزل والجوّال نعيش معها أجمل تجاربنا بأكثر وأقوى تفاعل؟ الخشبة تجعلنا نلامس أفكارهم بشكل مباشر، ونشعر بأطروحاتهم وننظر إلى تفاصيل أخطائهم وصوابهم وحركات أجسادهم التي تدلُّ على الهدف المُراد إيصاله لنا، فنعيش بكل حواسنا نترقب وننتظر البداية والنهاية مع مشاعرنا المباشرة التي تعترينا في كل مشهد: نضحك، نبكي، نفرح، نحزن، ننتقد بصوت خافت أو عالٍ فلا أحد يحاسبنا بل نحن من نحاسبهم كل منا حسب رغبته وعلى هواه.. هل يستحقون منا كل هذا الإهمال؟ وهل نحن أضعف من أن نقوم بتشريع الأبواب في وجه طموحاتهم كي تصل رسائلهم محفوفة بالحب والخير والعطاء دون انتظار للتعاطف وتسول الجمهور والتمويل، ودون الخوف الذي يُفقدهم متعة الوصول إلى القمة؟

سنتحدث قليلًا عن المسرحي.. فقبل أن يصعد إلى خشبة المسرح، يتجمّد الدم في عروقه، تشتعل ضربات قلبه، لأنه يعلم جيدًا أن لا مجال للخطأ، النص بالنسبة له ذاكرة تعجُّ به يُنهيها عن العبث بكلماته، هذا الإنسان الذي يتقدم بخطى متثاقلة وعزيمة في آن، يخلع القلق ويرتدي الدور كأنه جلباب مستقبلٍ كامل؛ فبه سيستر عورة مشاعره وحاجته وربما يعتبر نفسه في تحدٍّ لا يقل اعتبارًا عن تحدي الفارس لعدوه؛ فالكل حين يختار هذا الطموح ينتقده ويقلل من شأنه وربما يدفعه للفشل أكثر من النجاح، ويحطم به روح القرار وهنا ولوقتٍ طويل ربما لسنينٍ عديدة، يعاني من الضعف والعذاب بين تحقيق الذات والفشل.

باسم المسرحي والمسرح، أرفع صوتهما عاليًا كي نعيد لهما وجودهما، ونحثّ على صناعةِ الأمل فيهما، وبثّ القوّة والحياة في رسائلهما.

المسرح يقول: أنا هنا، فهيّا إليَّ، نعمل معًا لنُزيل الحزن من وجوه الناس.