شرع الله وشرع البشر (4)

 

منهج الإسلام في التشريع

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

يغيبُ عن مُعظم المنادين بالحاكمية الإلهيَّة للتشريع، القائلينَ بأنَّ البشر لا يُشرعون، وأن الإسلام عندما نَزَل على مجتمعات الجزيرة العربية لم ينزل في فراغ، وإنما نزل في بيئات اجتماعية تسُودها عادات وتقاليد، وأعراف وقيم، ونظم سياسية وتشريعية، وإرث ثقافي شفهي ضخم: سواء فيما يتعلق بالمعتقدات، أو العبادات، أو المعاملات، أو الزواج والطلاق والمواريث، أو العقوبات، أو العلاقات بالمجتمعات الأخرى.

ومن المهم إدراك هذه الحقيقة، وهي أنَّ القرآن نزل في بيئة اجتماعية زاخرة بتشريعات غير مكتوبة، لكنها تشكل نظاماً قانونيًّا مُلزِمًا. واستحضار هذه "الخلفية التاريخية" ضرورة لكل المشتغلين بدراسة النصوص الدينية، واستنتاج الأحكام الشرعية منها؛ لأنَّ إغفالها أشبه بعزل النصوص عن سياقها الاجتماعي المؤدي لسوء الفهم.

وقد أدرك الإمام الشافعي هذه الحقيقة؛ فقال: "ينبغي لمن أراد الخوض في علم القرآن والسُّنة، معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم ومجاري عاداتهم؛ لأنَّ الجهل بها يوقع في الإشكال الذي يتعذر الخروج منه إلا بهذه المعرفة".

إذن؛ القرآن نَزل في بيئة تحكمُها عادات وأعراف ونظم ومُعتقدات، أي تشريعات من وضع البشر، فماذا كان موقفه منها؟ هل ألغاها؟ هل أقرها؟ هل عدلها؟ هل أضاف جديداً؟ ما المنهج التشريعي للقرآن الكريم مع التشريعات البشرية في زمنه؟

أولا - في ميدان العقائد: كان الإسلام قاطعاً في مُكافحة الوثنية والشرك، وإلغاء كل مظاهرها وأشكالها ومحو كل آثارها، وترسيخ الإيمان بالإله الواحد، في النفوس، وهذه هي المعركة الأساسية للقرآن مع مشركي العرب. فلم يقبل القرآن أي مساومة في عقيدة التوحيد.

ثانياً - في ميدان العبادات والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والأسرية:

1- ميدان العبادات: عُرف المجتمع العربي قبل الإسلام بعض الشعائر الدينية الموروثة من مِلَّة إبراهيم (الحنيفية) والديانات السابقة، كالصلاة والصيام ومناسك الحج والعمرة، وتقديم القرابين والنذور، تُؤدى كطقوس للمعبودات من الأوثان تقرُّبا للإله بحسب زعمهم! لكن الإسلام في هذا الميدان كان حاسمًا، عمل أولاً على أن تكون العبادات خالصة لله تعالى، وتُصبح باطلة إذا شابها أي مسحَة شرك، وعمل ثانيًا على تنقية هذه الشعائر وتطهيرها من مظاهر الفساد والانحراف والبدع والملوثات التي تراكمت عليها عبرالأزمان، وعمل ثالثاً على إعادة صياغة هذه الشعائر في هيئات تناسب الدين الجديد، مختلفة شكلاً ومضموناً عن هيئاتها السابقة. وطبيعة هذه الشعائر أنها ثابتة لا تقبل التغيير أو التبديل أو الإضافة مهما تغيَّرت السياقات الاجتماعية والزمانية؛ لهذا أجمع الفقهاء على قاعدة "لا يعبد الله إلا بما شرع".

2- ميدان المعاملات والعلاقات الاجتماعية والأسرية: يختلف موقف المشرع هنا اختلافاً جوهريًّا عن موقفه في الميدانين السابقين، ويتضح هذا الموقف إذا عرفنا أن الشريعة ليست هي التي أنشأت للناس صور التبادل والتعاون والتعامل، لكنها جاءت فوجدت صوراً يتعامل الناس بها فكان لها موقف "الناقد المهذب" طبقاً للعالم الإصلاحي الكبير محمد محمد المدني.

ويتأكَّد هذا الموقف إذا أدركنا أنَّ التشريعات المتعلقة بهذا الميدان، تخضع لقانون التغيُّر والتطوُّر طِبقاً لتغير المجتمعات وتجدد احتياجاتها، ومن هنا نفهم حكمة الإسلام في مراعاة قانون التغير، عندما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- لصحابته: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

منهج الإسلام تجاه المتغيرات الاجتماعية:

يتلخَّص منهج الإسلام في هذا الميدان في 3 أساليب؛ هي: الإلغاء، والتعديل، والإقرار.

فقد ألغى الإسلام من هذه التعاملات ما يشوبها الربا والغش والاحتكار والغرر، وعدل ما يسبب النزاعات والتشاحن والبغضاء، وأقر كافة التعاملات التي تحقق العدل والتيسير وتعزز ترابط المجتمع. وهذا باب واسع تنتظم تحته كل صور التعاملات والعلاقات التي تُنظمها التشريعات المعاصرة. لهذا؛ أجمع الفقهاء على قاعدة "المعاملات طلق حتى يرد منع".

أخيراً.. الخلاصة النهائية التي أريد إيصالها للقارئ من هذه السلسة أن التشريعات الوضعية المعاصرة هي من شرع الله، ما دامت في إطار ثوابته القاطعة، وأن الشريعة الإسلامية لم تغب يوماً عن دنيا المسلمين.

 

* عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة قطر سابقاً