لديَّ جاثوم

غسان الشهابي

إذْ سبق وأنَّ ردد الزعيم الأمريكي المدني مارتن لوثر كنج، في خطابه الشهير عبارة "لديّ حُلم"، فإن قطاعاً عربيًّا عريضًا اليوم لديه جاثوم لا يبرح الصدور، ولا يفارق القلوب، جاثومٌ يسيطر على سحابة يومه، ويقضّ مضجعه، خصوصاً الأجيال الباقية التي تربت على أن "إسرائيل" عدوّ، وأن فلسطين هي قضيتنا وبوصلتنا، والصراع الدائر على ترابها صراع وجود لا صراع حدود، وأن "عفا الله عمَّا سلف" إن انطبقت على عراك بيني وبين جاري، وخرجت من فم أحدنا كلمة قاسية، فإنَّ الآخر سيكون كريماً، ويقول: عفا الله عمّا سلف، ولكن في قوائم الإجرام الصهيوني منذ "المؤتمر" وحتى هذه الساعة؛ ليس من حقّ أحد أن يعفو ويتنازل عمّا سلف وتلف.

لديَّ جاثوم أنَّ ينتظر القوم زوال بقية هذه الأجيال بعد أن يدجِّنوا الأجيال التالية بالدعاية الصهيونية التي تأتيهم من النوافذ ومن تحت أعقاب البيبان، وتتسرَّب إليهم من الأعمال الدرامية الغربية بل والعربية أيضاً، التي تأتيهم من المناهج التي نُعّمت وانتزع منها ما انتُزع من مُعاداة، ومن تاريخ يحكي ظلامة البيت المقدّس، وما فعله السفلة في محطات أساسية من جرائمهم الكبرى، ناهيك عن الممارسات اليومية، وأخليت الخطب من ذكر العدو، ولسوف تتحول إلى التغني بالسلام، وصلة الأرحام بأنهم أبناء عمومتنا، ولا بارك الله بأبناء -وليس أيضاً أبناء عمومة- من السفلة والقتلة.

لديَّ جاثوم أن يزداد عدد من في الطابور القائل "فلسطين ليست قضيتي"، وتصبح الجيوب قضاياهم الوحيدة، بعدما يزيد عدد حملة المباخر وقارعي الطبول للتوجهات العربية الرسمية المتجهة إلى قلب ما كان يسمى وطناً عربياً للمساهمة في عملية قلب مفتوح يصعب عليهم إغلاقه.

لديَّ جاثوم بكثرة من يقولون جربنا "محاربة" الإسرائيليين سبعين عاماً، ولم ننجح، فلنجرب السلام، وكأننا بالفعل كنا نحارب "إسرائيل"، وكأن التاريخ لا يحمل أخباراً وقصاصات التخاذل، والجيوش التي لم تصل أبداً إلى المعارك، و"ماكو أوامر"، وأطناناً من الخيانات المتنوعة، والسهر مع الصهاينة وإبلاغهم بكل ما يخطط العرب له، مقابل رضاهم عن هذا الحاكم، وإبقائهم على كرسيّ ذاك؛ لأنه بإشارة منهم إلى الولايات المتحدة بإمكانهم أن ينكّروا عروش جملة من الحكّام، فشراء رضا هؤلاء واحد من أركان الحكم في هذا الزمان المشوم.

لديَّ جاثوم أن يصدِّق بعضٌ من العرب، بل ويروّجوا مقولات أن أفضل التقنيات إسرائيلية، وأفضل الطب إسرائيلي، وأفضل التعليم إسرائيلي، وأفضل البحوث إسرائيلية، وأفضل الدواء إسرائيلي، وأفضل السياحة إسرائيلية، وأفضل البنوك إسرائيلية، وأفضل الأفلام إسرائيلية... والقائمة تطول، ويبسّط العرب المسألة كثيراً بأنهم لا يطبّعون وإنما يذهبون للأفضل للأخذ منه وحسب ليغدوا هم الأفضل... ولكي يكونوا كذلك فالمسألة أعقد من مجرد "الأخذ" و"الشراء".

لديّ جاثوم أن لا يتمكَّن أحدٌ في المستقبل المنظور من الاحتفال بيوم الأرض، أو إبداء الرغبة في الصلاة في الأقصى، أو التخلص من الكوفية، أو يصبح الترنم بنشيد "موطني" جريمة يهتز لها عرش المطبعين.