قيادة المجتمعات بين الضرورات والتحديات (1 -2)

القيادة في ظل الضرورات

سعيد الشحري

في الحقيقة بعض الموضوعات التي يتم التطرق إليها قد تكون من باب التثقيف لا من باب التوصيف لما هو قائم، كما أنَّها بعيدة عن الأنس بالكلام الذي لا طائل منه، كبعدها عن الافتعال والتكلف والمكايدة.

فالحق أنَّ الحديث عن قيادة المجتمعات قد يتطرق إلى منحيين أولهما قيادة المجتمع في ظل الضرورات والآخر قيادة المجتمع في ظل التحديات، وهما بلا شك مختلفان كأشد ما يكون الاختلاف ويتفقان فيما يُلقيانه بظلالهما على كاهل الدولة الوطنية من تبعات وأعباء، فمن لم تردعه دروس الزمن وأحوال المجتمعات سيرتدع بمنطق الكون ومُسبباته، كما أن الكيانات السياسية العريقة أو قل التي تتطلع مستشرفة رؤاها المستقبلية تدير مواردها بحكمة بل وفق برامج طموحة لما يجب أن تكون، فالإدارة هي العمل ضمن ما أمتلكه من إمكانيات وزمن أعمل في نطاقه، بينما القيادة هي إدارة ما هو كائن مع توجيه قوى المجتمع نحو حلم يلوح في الأفق بل تبث إلهاماً ورغبة في العطاء يشبه السحر وهو أداء بشري تراه وتُحدد معالمه. قل عنه سحر القيادة أو الكاريزما وإن شئت القيادة المبنية على المبادئ.

ومهما يكن من أمر، فالقيادة في ظل الضرورات تجد نفسها أحياناً معرضة لتهديد يُقلق كيانها أو فوضى تحاول العبث في أمنها الاجتماعي.فأول هذه الضرورات هي تهديد الأمن القومي، والحق أنَّ لكل كيان سياسي أمنه القومي الذي يخصه ويضمن مصالحه، كما أن دائرة الأمن القومي تتضمن الجغرافيا وما يحيط بها من تأمين للحدود وضمان للمصالح ففي أوقات التدافع والصراع تجد بعض القوى نفسها إما مدفوعة نحو التمدد والهيمنة أو نحو التقوي وبناء الموارد الذاتية، فتقوى بذلك على الحراك وتتمكن من التأثير العاقل.

فخذ إن شئت تجربة الصين كقوة عالمية وثاني اقتصاد على مستوى العالم لم تستغرق سوى سبعين عاماً تقريباً لتضع بصمتها على الأرض والتاريخ وهي نموذج للتقوي وبناء الداخل على الأقل في فترة تمدد الإمبراطوريات واشتباك بعض المصالح الدولية. أما تهديد الأمن القومي فقد أعطى فيه العمانيون درسًا بليغاً ما زال صداه يتردد في الأسماع وتحكي عنه الأجيال منبهرة كما تشاء فهم قوم جللهم المجد في مواطن التبجيل وعظمهم السيف الذي لايرحم في ميادين القتال والذود عن الأوطان في حقبة الغزو البرتغالي وأزمنة ليست بالقليلة من تاريخ عُمان الباسل. العامل الآخر في منظومة الأمن القومي هو تراكم التاريخ على الجغرافيا لفترات طويلة وهو بشكل أو بآخر يضفي على الجغرافيا بفعل الإنسان شرعية الوجود وأهلية الاستحقاق.

أما المُتغيرات في ظل ثبات الجغرافيا وحركة التاريخ هي ما نُمارسه من أدوات ووسائل لتعزيز أمننا القومي وذلك من خلال تعظيم المصالح وتقليل التهديد والإقدام على المخاطر دون مساومة إلا إذا أردنا التخلي عن الحياة. ثاني الضرورات هي القيادة في ظل الانقسامات الاجتماعية الحادة، كالفتن الأهلية وما يُواكبها من صراعات دينية أو مذهبية بل وعرقية وقبلية، فحدوثها قد لا يكون مثاراً للمفاجأة لو أيقنا بمحاولات للدولة لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع وبناء حوار مثمر، فعندما يغيب صوت العقل فلا المجتمع قادر على تجاوز جراحاته ولا الدولة ستفرط في أمنها وما يصون وحدتها. هنا وجب أن تُمارس القيادة في ظل هذه الأزمات إرادة تجعل من نفسها إرادة للمواطن ومن حضورها بديلاً عن صراع الوجود وإثبات الذات والتكالب على مصالح فئوية.

فضرورة الاستقرار والبحث عن المناطق الآمنة يجب ألا يكون ذريعة للسماح بولادة قيصرية لمفاهيم الطائفية وشرعنة للمحاصصة وتقاسم الفرص، فهو حل أشبه بالبيت المسكون ندخله أحياناً على عجل وتوهم ولا نكاد نغادره هاربين.فالحق إن القيادة المبنية على المبادئ والتي سخرت ما تطيق من الموارد وما يسعفها من الحلول والبدائل تعمل بصمت في سبيل نهضتها العلمية ورؤيتها الوطنية والتي كفيلة بإسكات كل صوت يحاول إثارة الضجيج وبيع الوهم في مجتمع سخر فكره للابتكار وسلَّ قلمه للدفاع عن وطنه في ساحات البناء والتنافس على البقاء والقفز لمنصات الريادة.

أما الضرورة الثالثة على الأقل فيما أعتقد أنَّها عاصفة وبالغة من الخطورة كل مبلغ هي الأزمات الاقتصادية الحادة والتي تفتك بالمُجتمعات فتكاً ذريعاً بل ومناخا يفتح ذراعيه لاحتمالات كثيرة بين ما هو اقتصادي وماهو اجتماعي ناتج عنه لتمتزج الهموم بالمخاطر والتمنيات بالآمال المعقودة على القيادات الفتية للهروب من حافة الهاوية وبث الأمل في غد جديد.

فأزمة الثلاثاء الأسود أو الكساد الكبير عام 1929 التي عصفت ببورصة وول ستريت وما ترتب عليها من خسائر مادية فادحة ومعدلات بطالة قاسية، مروراً بأزمة الرهن العقاري عام 2007/ 2008 وما تسببت به من إفلاس مؤسسات مصرفية وتداعيات على الاقتصاد العالمي، انكفأت بسببها دول وتعثرت فيها خُطط، وجعلها البعض بالرغم من تياراتها العاصفة حافزاً لمعرفة ما كان وما يجب أن يكون.

إنَّ ما قلته لي خضوعا للحتمية التاريخية فحسب بل ودعوة للعقل الإنساني ليُمارس حيويته وتجدده، فالأمة لا تبحث عن شيء في الماضي إلا في أوقات الصراع وخيبات الأمل وهي مع ذلك تمني نفسها للذهاب للمُستقبل بطريقة آمنة وخالية من ضروريات الزمن المُلحة فحدوثها لا ينفع معه الصمت المرير وقت الصدمة ولا بكاء الحالمين عندما تساق آمال الكبار في عالم لا يصافح إلا الأقوياء ولا يهادن إلا الكيانات القادرة على الفعل والمستميتة على الوحدة.