الحياة على قيد الموسيقى

جيهان رافع

الحياة دون موسيقى كمنزلٍ خلا من سكانه.. كالشعر الذي يخلو من لغة الروح.

منذ نشأة الإنسان لم يدرك ما يُحيط به من ظواهر طبيعية، لكنه كان يستمع إلى أغاريد الطيور وهمسات الغابات فيهتزّ تلقائيًا طربًا، وإذا استمع إلى زوابع الرياح وتلاطم الأمواج العاتية يهتزّ تلقائياً من الخوف، من ثم صار يخاطب هذه الأصوات الجبّارة التي أتته من عالم خفي في نظره آنذاك بلغة الجسد التعبيرية مثل التصفيق والضرب بالأقدام على الأرض وحركات متعددة والصياح والبكاء. ويبدو أن الطبيعة الزاخرة بالأصوات الموسيقية كتغريد الطيور وهمسات النسائم التي تمر بين الأشجار وخرير المياه في الجداول وصوت الأمواج الهادئة في البحار، كانت المعلم الأول للإنسان على الموسيقى؛ حيث راح يبتكر أشياءً تُصدر أصواتًا يعبّر بها عن حالته التي يعيشها؛ كالحرب أو الحزن أو الفرح أو ليميّز نفسه ومجموعته التي ينتمي إليها بطقوس إيقاعية.

وفي استمرار التطور تميّز العرب عن غيرهم في محاكاتهم للطبيعة من خلال الموسيقى المشابهة لإيقاعاتها الخلّابة، فاعتمدت الأغنية العربية منذ القدم على الإيقاع، كما يعتمد الشعر آنذاك على الأوزان التي تنحصر في مقاطع طويلة وقصيرة، ويعرف أن البناء الإيقاعي هو إيقاع شرقي الأصل؛ حيث تميّز به العرب وقدموا من خلاله للغرب أهم تراث موسيقي وهو نظام المازورة (misura)، كما إن أوروبا تُدين للعرب بآلات موسيقية كثيرة؛ حيث كانوا قد أهدوا لبيزنطة آلات الآرغن والقانون والهارب، والتي كانت قد أتتهم عن طريق إسبانيا، ومن الآلات الوترية: القيثارة والعود والمندولا والمندولين والطنبور والسنطور، أما آلات النفخ منها: الناي والمزمار، ومن الإيقاعية: الطبل والدف.

لقد كانت هذه الآلات ذات تأثير خاص على حياة الأوروبيين؛ حيث عملوا على تطويرها وقاموا بتعديل بعضها ليتناسب مع حياتهم وتقاليدهم.

هناك أبحاث- مثل بحث المستشرق الاسكتلندي هنري جورج فارمو- دلّت على أن السلّم الموسيقي هو عربي الأصل الذي تجمعه كلمتان (دُر مَفصّل)، كما إن هناك مصنفات لاتينية تضم مصطلحات عربية كثيرة ترجع إلى القرن الحادي عشر، عُثر عليها في جبل كاسينو الذي كان العرب يقيمون فيه.

لقد تميّز العرب قبل وبعد الإسلام بحبهم للموسيقى والأوزان، وذلك يظهر جليّا في بعض البحوث التي تؤكد تناقل العرب ما قبل الإسلام لقصة "مزامير داوود"، وكلمة مزامير تعني صوت الأصابع التي تضرب على آلة موسيقية وَتَريّة. وتُشير هذه القصة إلى ترانيم وتسابيح كان ينشدها نبي الله داوود- عليه السلام- بصوت جميل، وكل مزمور بمقام موسيقي مختلف؛ حيث أمر الله- عزّ وجل- الطير والجبال أن تسبح خلف تسبيحه، كما جاء في القرآن الكريم في سورة سبأ "ولقد آتينا داوودَ مِنَّا فضلا يا جِبالُ أَوّبي مَعَه والطّير".

وفي ذلك قال يزيد بن معاوية: "خذوا بدمي ذات الوشاح" لها حكم لقمان وصورة يوسف ونغمة داوود وعفّة مريم، ولي حزن يعقوب ووحشة يونس وآلام أيوب وحسرة آدم.

ويُروى أنه حين استمع رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) إلى تلميذه أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن الكريم بصوت جميل ونغم أجمل، فقال له عليه أفضل الصلاة والسلام: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير داوود" فصبّ الفرح في قلب أبي موسى.

إن المسلم تلذذ بسماع تلاوة القرآن بتجويده؛ لأنه الكلام الذي أُنزلَ من الله عزّ وجل بنظمٍ فائقة الجمال والتميز عن كل شيء، كما تلذذ الجميع بسماع الألحان التي تتماشى مع كل حال يعيشه الفرد، فمنها ما يؤنس وحشة القلب، ومنها ما يذكّره بماضٍ عاشه، ومنها ما يصبّ في النفس الخشوع، ويؤجج العواطف، ذلك هو لحن الحياة، والحياة على قيد الموسيقى تحيا.