فيروز.. حكايات الصباح

جيهان رافع

اقترن صوتها بإشراقة الشمس وصار لقبها الفني سيما الصباح لكل عاشق للحياة، ولكل حنين، ترك فينا أثرًا لمعنى الحب والصباح وبما أنَّ القهوة صباحيّة المذاق، ارتبط اسم فيروز بها ارتباطا شديد اللُحمة، فصار كرائحة القهوة تُشعرنا بالحنين قبل أن نشربها.

هي من غنّت: لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي... لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي...عيوننا إليك ترحل كلّ يوم... تدور في أروقة المعابد تُعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد... يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء.

في الحادي والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1935 ولدت نجمة على أرض جبل الأرز باسم نهاد حداد، لبّت نداء الفن على يد المُلحن وكاتب الأغاني محمد فليفل الذي كان من مؤسسي المعهد الوطني للموسيقى في بيروت حيث طلب منها الالتحاق بالمعهد كي تبدأ طريقها الفني وفي نفس المعهد لفت صوتها انتباه المُلحن حليم الرومي وغنّت من ألحانه أول أغنية لها باسمها الجديد فيروز وذلك في صيف 1950 وفي صيف 1957 قدّمت أول عرض مباشر (استعراض موسيقي) بعنوان "أيام الحصاد" في معبد جوبتر الأثري في مهرجان بعلبك الدولي حيث قام الرئيس اللبناني في ذلك الوقت كميل شمعون بتكريمها ومنحها وسام (فارس) وبعدها صار لفيروز الفضل الأكبر في الإقبال الشديد من الجمهور على مهرجان بعلبك كل سنة.

حين نصغي لصوت استيقاظ العصافير قرب النوافذ نصغي لصوتها الفيروزي نسمعه حتى من دون أن نسمع أغنية لها،

 تمتد أيدينا نحو المذياع بشكل عفوي كي نوقظ ذكرياتنا المليئة بها لأنه ببساطة يرافقك هذا الصوت في كل حالة أنت تعيشها، فإذا أردت أن تستنهض أصالة العروبة فيك تستمع إلى صوت فيروز وهو يتغنّى بذهبيّة الأرض لدى كل شخص يعتز بروح الانتماء. "إسوارة العروس مشغولة بالدهب وأنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب" التي كتبها الشاعر جوزيف حرب تستطيع كلما رددتها أن تعود إلى الجنوب وتشعر بنبض العروبة فيك، وإذا أردت أن تتذكر الأحبة تأتي إليك أغنية: "يا جبل البعيد خلفك حبايبنا بتموج مثل العيد وهمّك متعبنا اشتقنا عالمواعيد بكينا اتعذبنا يا جبل الي بعيد قول لحبايبنا بعدو الحبايب بيعادوا بعدو الحبايب".

نعيش مع هذا الصوت العذب كل حالات الحب والحرب والحرية والفراق والشوق وما يتاح لنا من عذوبة الذكريات وأجملها وفي بعض الأحيان يرمينا في بئر آلامها، ثمّ يمدّ لنا حبال الصباح لينتشلنا ويُعيدنا إلى حاضرنا. فمن أغانيها للحب التي صارت كرسائل للقلوب وأجملها.. "يا طير يا طاير على طراف الدني.. لو فيك تحكي للحبايب شو بني.. يا طير روح اسألن عاللي حبيبو مش معو.. مجروح بجروح الهوى شو بينفعوا؟".

فيروز من نقلت لنا كلمات القصائد الصعبة ببساطة وجمال الصوت واللحن وقرّبت من قلوبنا الموشحات الأندلسية بعذوبة أدائها.

امتلأت جعبتها الصادحة بكل ما هو جميل بعد لقائها بالأخوين رحباني في نفس المعهد الموسيقي الذي درست حيث كانا يشقّان طريقهما الفني وسجلا أول أغنية بعنوان "عتاب" في إذاعة دمشق عام 1952 ثم تزوجت فيروز عاصي الرحباني في عام 1954 وفي عام 1955 ذهبت برفقة عاصي إلى مصر وأنتجوا "راجعون" وهو عمل مسرحي غنائي كان الفريد من نوعه ونال شهرة واسعة بسبب استحواذ مصر حينذاك على احتضان الفن والإبداعات المميزة من السينما والمسرح والأغاني الطربية حيث كانت تتمتع بالزمن الذهبي من ظهور عمالقة الفن.

غنّت فيروز أكثر من 1400 أغنية استعانت خلالها بالكثير من الأسماء الساطعة مثل محمد عبد الوهاب والياس الرحباني وفيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد محسن، ولاحقًا واكب تطور أغانيها ابنها زياد الرحباني الذي ترك لها بصمة مختلفة من المنحى الإبداعي الخاص به.

أعلم أنَّ الكلمات لاتفي بغرض الحديث عن أيقونة المحبة، عن فيروزية الحنجرة وماسيّة المسيرة عن درّةٍ وضعها الزمن في تاج الصباح عن صوت امتدت جذوره في أديم الأجيال بألوان الفرح والحزن والانتماء والأصالة والمحبة، وإذا كانت في هذه الفترة ترقد على فراش الفراق نعلم جيدًا أنها لن تفارقنا حتى وإن فارقنا جسدها.

 لفيروز من القلب سلام.