الخاصرة الرخوة للتطبيع والاختراق الصهيوني

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

في عام 1995م كتبت مقالًا نُشر بصحيفة الشرق القطرية بعنوان: "حتى لا تُصبح أقطار الخليج قدوة سيئة"، شخصت فيه حال ومُمكنات أقطار الخليج وحجم تموضعها في وجدان المُواطنين العرب، من يراها حاضن مقدسات المسلمين، ومن يراها ذات فضل عليه وعلى الأقطار العربية في تشغيل العمالة والإسهام في التنمية والعون في المجهود الحربي، ومن يُعجب بسياسة النأي بالنفس للقادة الآباء المُؤسسين لأقطار الخليج وحيادهم الإيجابي في القضايا العربية الجوهرية ووقوفهم على مسافة واحدة من الفرقاء العرب والخلافات العربية العربية، فقد كانوا محضر خير في مُناسبات خلافية كثيرة.

فقد كانت أقطار الخليج الملاذ والملجأ بعد الله سبحانه وتعالى للكثير من الأشقاء العرب وحاضنة ومنشأ لأهم قضية عربية مُعاصرة وهي قضية فلسطين. كما كانت أقطار الخليج في تكامل عضوي مع هموم الأمة وآلامها وحاضرة في دعم حركات التَّحرر العربية كثورة الجزائر عبر جهود شعبية ورسمية ظاهرة ومُقدرة.

بعد غياب الزعيم الخالد جمال عبدالناصر عن الساحة عام 1970م، وتجفيف ثقافته لم تتيتم الأمة العربية فحسب بل تشظت بأفكارها وأولوياتها وتوجهاتها وخياراتها وتوزعت كشيع بين سياسات الاستقطاب والمحاور والأحلاف وهي فاقدة لأدنى مُقومات المناعة والتحصين والمُقاومة بل والهدف، فالزعيم جمال عبد الناصر كان بمثابة الضامن وصمام الأمان للوحدة العربية والتضامن العربي والأمن القومي العربي بل وكانت الجامعة العربية كذلك، بزعامته وهيمنة شخصيته وحيوية الحاضن العربي والمحور والمتمثل بمصر عبدالناصر.

تشظت الأقطار العربية إلى من أعتقد بأنه كيان مستقل ولا تربطه بالعرب سوى الجغرافيا وبعض التاريخ، وبالنتيجة أصبح ينظر لقضايا الأمة ويتعامل معها كأي قضية سياسية في العالم فقط لا غير، وهؤلاء تبناهم الغرب وأطلقوا عليهم تسمية حلفاء من باب الدعم النفسي، وهناك من أعتقد أنَّه إقليم عربي في كيان عربي كبير وأسس سياساته على هذه القاعدة فأستعداه الغرب وأطلق عليه الدول المارقة !!

غياب الزعامة وغياب النظرة السياسية الشاملة والعميقة للنظام الرسمي العربي تجاه مصير الأمة وما يحيق بها ويُحاك لها، وغياب رجال الدولة تباعًا في الوطن العربي على المستوى القُطري والإقليمي سهَّل الاختراق المُنظم للوطن العربي وعودة الاستعمار الجديد عبر تكريس التبعية والاستقطاب والمحاور ترهيبًا وترغيبًا خوفًا وطمعًا. أعترف وأقر بأنَّ النظام الرسمي العربي اليوم لا يقرأ التاريخ البعيد حتى يقرأ واقع اليوم ولا يقرأ التاريخ القريب حتى يرسم ملامح المُستقبل القريب كذلك، إنِّه نظام لا يقرأ لهذا لن يُدرك ما يُقرر له من مصير كارثي.

فحين رسخ الزعيم العبقري حافظ الأسد مبدأ اللاحرب واللاسلم مع العدو الصهيوني منذ عام 1974م، استنزف العدو نفسيًا حتى أتاه صاغرًا عبر بوابة واشنطن عام 1998م، وحين أعتقد كيان العدو وحلفاؤه أنّ خروج مصر من مُعادلة القوة عبر كامب ديفيد عام 1979م، وقبلها خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970م ثم خروج فصائل المقاومة من لبنان عام 1982م سيجعلهم يهنأون بسلام دائم، أنبرت لهم فصائل المقاومة بلبنان وفلسطين من حيث لا يحتسبون لتقض مضاجعهم وتقلب الطاولة عليهم، ثم أتت العناية الإلهية بالثورة في إيران لتنضم إلى حلف المُقاومة ولتصبح المقاومة هي الكلمة العُليا والكلمة الفصل.

هل يعلم النظام الرسمي العربي أنَّ الكيان الصهيوني لم يُحقق انتصارًا عسكريًا واحدًا منذ معركة الكرامة عام 1968م، مع الجيش الأردني الباسل ولغاية اليوم وأن انتصاراته سياسية بفعل تخاذل النظام الرسمي العربي وعجزه عن ترجمة تلك الانتصارات العسكرية إلى انتصارات سياسية!!؟

هل يقرأ النظام الرسمي العربي اليوم الأحداث على الساحة العربية من هذه الزوايا ليؤمن بأنَّ أوراقه اليوم أكبر بكثير من خيارات التطبيع وثقافة كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو ومدريد!!؟ وهل يُدرك النظام الرسمي العربي أنَّ مجرد صمته مع شتاته وضعفه في زمن المقاومة قوة مؤرقة للعدو !!؟

هل يُدرك النظام العربي الرسمي مغزى ودلالات ثورة 30 يونيو 2013م بمصر العصية !!؟ ومغزى ودلالات انتصار سوريا!!؟ ودلالات الفيتو المزدوج الروسي الصيني المتكرر بمجلس الأمن والتحولات في العالم من حوله!!؟

هل يُدرك النظام الرسمي العربي أنَّ هروب الكيان الصهيوني نحو ما يسمى بالتطبيع مع بعض الأقطار العربية الهشة هو إقرار منه بالفشل الذريع في السيطرة الشاملة على جغرافيا فلسطين وتطويع شعبها المناضل!؟ ليت النظام الرسمي العربي يشترط على الكيان الصهيوني السيطرة التامة على كامل فلسطين وإعادة قطاع غزة وضم الضفة وإعلان القدس عاصمة دائمة له كشرط للتطبيع معه لاحقًا !! هل يُدرك النظام الرسمي العربي بأنَّ التطبيع يعني عودة الأمور إلى طبيعتها ونصابها القانوني والمنطقي والأخلاقي، فماهو الطبيعي بيننا وبين كيان غاصب ومحتل!!؟ هل يُدرك النظام الرسمي العربي أنَّ التطبيع يعني سهره على حماية مصالح واتفاقيات زور مع غاصب محتل وأنَّ الثمن هو استعداء الشعوب وقمعها والتضحية بالسلم المجتمعي والسكينة العامة للحفاظ على تلك الاتفاقيات!!؟ هل يُدرك النظام الرسمي العربي أن إقرار التطبيع كمبدأ يعني إقرار احتلال أي قُطر عربي مُستقبلًا من قبل أي عصابة أو ميليشيا أو كيان!!؟ هل تساءل النظام الرسمي العربي عما جنته مصر والأردن من التطبيع حتى يتم تسويقه بهذا الحماس اليوم!!؟

الخطر الذي يُمثله التطبيع اليوم على أقطار الخليج عظيم بسبب غياب الوعي السياسي لديها وغياب الرصيد النضالي لدى أجيال ما بعد كامب ديفيد خاصة، والبعد الجغرافي عن فلسطين ومناطق الالتماس مع العدو الصهيوني مما يجعل أقطار الخليج وشعوبها اليوم تنتحل صفة العداء للكيان الصهيوني أكثر من إيمانها بذلك وكما كان حال أبناء الخليج في الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن المنصرم. لهذا لا استغرب شخصيًا في الخلط مابين الصهيونية واليهودية والاحتلال والخلافات الحدودية والسلام والاستسلام والسلام والتطبيع ويهود بحر الخزر ويهود خيبر !! فأقطار الخليج لم تعش يومًا ماعاشه أشقاؤهم في فلسطين ودول الطوق من حروب وتهجير وقتل وتدمير وفقد ويتم وترمل بل قيل لهم ونُقل لهم، لهذا يُرحب اليوم البعض من دهماء الخليج بالتطبيع، كما يرحب بعضهم ويُبشر بالأردوغانية ويُمجد الاحتلال العثماني لأنه لم يكتوي به.

شتان مابين الرضوخ للضغوطات والامتثال لمقتضيات السياسة العميقة ومابين أن يُطلب منك الانتحار فتلبي الطلب دون رفض أو نقاش أو تفكير !! فالتطبيع يعني نهاية صراع وليس حرب، فالصراع ينتهي بزوال طرف أو تذويبه وصهره أما الحرب فتنتهي بين منتصر ومهزوم. التطبيع في زمن كامب ديفيد خيانة كبرى أما اليوم فهو خيانة كبرى وبلادة سياسية من العيار الثقيل.

يقول المُفكر محمد حسنين هيكل: الدولة التي لا تستطيع قول (لا) في زمن ما وتجاه قضية أو موقف ما وفي وجه كائن من كان لا تستحق أن تكون دولة.

قبل اللقاء: السياسة ليست فن المُمكن فحسب، بل فن التموضع في الوجدان الشعبي وضميره وترجمة صادقة لمشاعره وتطلعاته ومصيره.

وبالشكر تدوم النعم