ناصر العبري
"مسكن" قرية عمانية مهمة من قرى ولاية عبري بمحافظة الظاهرة، تستريح على صدر "وادي لكبير" الشهير بطوله واتساع مساحته وعذوبة مائه ودماثة بطاحه وشموخ جباله، في هذه القرية التي زادها أهمية موقعها الجغرافي الواقع على ملتقى ثلاث طرق رئيسية تربط بين محافظات الظاهرة وجنوب الباطنة وشمال الباطنة ثم إلى مسقط، إنها قرية تشبه معظم قرى عمان في ديمومة أصالتها وفي تلقيها لحوادث الدهر بالصبر والتحمل وفي قسوة الطبيعة وشظف العيش أحيانا.
نشأ وترعرع في مسكن عدد كبير من الرجال الذين تركوا بصمتهم في سجل الشرف والصمود لهذا الوطن!
من بين هؤلاء الرجال شاعر كبير أخذ على نفسه حمل راية الكلمة موازية لراية البندقية والمدفع ليرفع صوت عمان في ميادين القول كما رفعه في ميادين الفعل فذهب بعيدا وحلق عاليا بعطائه الجسدي والفكري المتميزين، إنه شاعر الوطن الكبير سالم بن علي بن سالم المطوع الكلباني، صاحب قصيدة النصر الشهيرة والمدوية الذي ولد سنة 1956م؛ حيث كان والده رحمة الله عليه هو المعلم والمربي في القرية، ولما بلغ الولد السن المناسبة أدخله والده المدرسة مع زملاء كانوا أكبر منه سناً ومنهم المفتش العام الأسبق للشرطة والجمارك معالي الفريق أول متقاعد سعيد بن راشد الكلباني، واللواء علي بن راشد الكلباني قائد الجيش السلطاني العماني الأسبق، والمرحوم الفريق خميس بن حميد بن سالم الكلباني، وكثير من القادة والمسؤولين تعلموا في مدرسة والده-رحمه الله- قراءة القرآن الكريم والكتابة العربية وعلوم الدين.
تلك المدرسة التي ما كانت مبنية بالرخام الأبيض ولا مزخرفة بالياقوت الأخضر ولا مطلية بالذهب الخالص وإنما كانت كأية مدرسة فقيرة وصغيرة في عُمان، فمدارج المسجد الجامع المسمى "مسجد الحجرة" وأمباة الفلج ونارنج الوقنة هي المكان الذي يحتضن الطلاب برحابة حبه.
كان الفضل لوالده الذي غرس حب الشعر في نفسه، وكان مطلعاً على العلوم العربية والآداب والقصص القديمة وكان الناس في ذلك الوقت يتهافتون على من يعلمهم أو يقص عليهم قصصاً من التاريخ ومن ينشد لهم الأشعار ووالده يحفظ الكثير من الأشعار ومن الأدب العربي القديم والناس في ذلك الزمان بلا وسائل الإعلام مثل التليفزيون أو الإذاعة أو الصحف. كان والده هو المعلم ورجل الشرع والدين في القرية. وكانت الأماسي تتناغم فيها روعة صفاء القمر والنجوم مع روعة طيبة القلوب وكرم الطباع بروعة ما يتم طرحه من حكايات وأناشيد مما انعكس إيجاباً على موهبة شاعرنا الفذ وزادها صقلا وتحفيزا.
لم تطل الأعوام على بقائه صبياً صغيراً في قريته فقد كان للحياة ضروراتها وللعيش متطلباته وللوطن حقوقه فالتحق بقوات السلطان المسلحة وبالتحديد كتيبة الجبل التي كانت قيد التأسيس وكان هو وزملاؤه نواتها الأولى.
ولأنَّ المساحة المحددة لهذا المقال في الجريدة لا تتسع لسرد الكثير من الوقائع في حياته العسكرية، فإننا سنقصر الحديث عنها مؤقتاً ونختصره في النقاط البارزة، فالشاعر القدير سالم بن علي الكلباني شارك في المعارك الصعبة التي جرت في جبال ظفار، منها مثلاً معركة منطقة زيك ومعارك وادي دربات وغيرها ثم معركة شرشيتي التي كانت الضربة القاضية على التمرد هناك والتي بعد انتهائها عادت كتيبته إلى نزوى كما يقتضي العمل العسكري وخلال تلك الأيام زار السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الكتيبة لكي يسلم على الجنود ويبارك لهم بالنصر: حينها تقدَّم الشاعر سالم إلى جلالته وحياه بتحية الملوك وتحية الجندي لقائده الأعلى واستأذنه في إلقاء قصيدة ترحيبية فارتاح جلالته للطلب فألقى الشاعر قصيدته التي كانت مرتجلة في حينها ومنها قوله:
سعدت نزوى أيا ليث الشرى// حينما جاء رسول بشرا
أن قابوس سيأتي زائرا// نحوها وهو إليها أقبلا
فرحوا سكانها واستبشروا// وبما كانوا تمنوا ظفروا
وبهذا كلهم قد فخروا// واكتسوا بالعز لما وصلا
سعد السلطان بما سمعه واستمر الشاعر في إلقاء ثلاث قصائد وبعدما انتهى قال له جلالته "أحسنت.. مشكور ومبروك". ثم التفت إلى الضباط حوله وقال لهم "هذا الولد قررنا نقله عنكم"، فأجابوه سمعاً وطاعة مولانا".
وتمَّ نقله إلى الحرس السلطاني وبعد حوالي أربعة أشهر أراد مولانا- رحمة الله عليه- أن يُعلن للمواطنين انتهاء الحرب في ظفار، وأعلن عن مسيرات فرح بهذه المناسبة في كل أنحاء السلطنة من أقصاها إلى أقصاها تجتمع في إستاد الشرطة في الوطية، وحضر جمع غفير للاستماع إلى الخطاب السامي، وأتيحت لشاعر الوطن الفرصة أن يلقي قصيدة النصر ومطلعها:
"الله أكبر يوم النصر قد طلع وأشرق الحق في الآفاق وارتفعا".
وأعلن يومها مولانا في الخطاب السامي انتهاء الحرب في المنطقة الجنوبية مقررا يوم 11 ديسمبر من كل عام يومًا للقوات المسلحة.
حصل الشاعر الجندي سالم الكلباني على عدة أوسمة عسكرية منها وسام العمليات الحربية، ووسام الصمود، ووسام الخدمة الممتازة، ووسام حفظ السلام.
وفي الجانب الثقافي، مثل شاعر الوطن عمان في العديد من المهرجانات والمحافل الدولية منها أيام عمّان الثقافية في الأردن ومهرجانات في الرياض ومهرجان في مدينة أبها ومهرجان في البحرين، وفي القمة الخليجية بأبوظبي وقبل ذلك عكاظية الحبيب بو رقيبة في تونس.
وحصد شاعر الوطن العديد من الجوائز؛ أولها فوزه لثلاث سنين متتالية بالمركز الأول على مستوى السلطنة بقصائده الثلاث ثم تتويجه بميدالية الشبيبة في عام الشبيبة ثم فوز نشيده ليكون النشيد الرسمي لعام الصناعة ثم فوز قصيدته (البطولة) بالمركز الأول عام 1990، كما حصل نشيده (اطلب العلم) على شرف الفوز في دولة قطر ليكون النشيد الرسمي للمؤسسات التعليمية. وفي عام 2016 تم تكريمه في الرياض من الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي كشخصية ثقافية فاعلة.