تأملات في الأسواق الاستهلاكية

 

غسان الشهابي

عندما أطوف في بلادي على المناطق التي تحوّلت فجأة إلى أسواق ليس لها انتظام، حيث كانت تعجّ بالمحلات التجارية المُتشابهة النشاط، أجدها اليوم، أي بعد حوالي خمسة أشهر من الجائحة التي ضربتنا أجمعين، وقد أظلم عدد منها، وبدا المشهد العام لهذه المحلات، وخصوصاً فترة المساء، وكأنها فراغات أسنان تساقطت من فم إنسان.

من الواضح أنَّ هذه الجائحة المستجدّة، والتي لا تبدو لها نهاية حتى الآن، ولا ضوء في آخر النفق الذي لا ندري أين آخره بالتحديد، قد طوّحت بالكثير من الأعمال، من دون الالتفات إلى حجم هذه الأعمال، فالكثير منها لم يعد قادراً على الصمود في وجه التباطؤ الكبير الذي تواجهه أسواق البيع والشراء (المفرّق)، وخصوصاً تلك الأنشطة التي تعتمد على تقديم خدمات بالحضور الشخصي، فالحضور بات إما محظوراً قانوناً، وإما أن يكون مكتسياً بالحذر الشديد والتوتر الكبير، حتى مع تعوّد أناس كثيرين على التعايش مع الفيروس، بل وصل البعض منهم إلى حدّ البلادة في الحذر منه.

أعتقد أنَّ هذا الحال الذي رأيته هو ذاته الحاصل في معظم الدول، حيث استطاعت الجائحة كنس الأعمال الهشّة التي لا يُمكنها الوقوف على قدميها لفترة طويلة، والتي تعتمد على الآني واليومي من الدخل وإلا دخلت في حسابات عالية التعقيد تنتهي بها إلى الخروج مباشرة من السوق، مخلفة وراءها لافتات من نوع "للإيجار" أو "للتصفية"!

وبغضّ النظر عن هذه الأعمال المُتشابهة الأنشطة، والمنتشرة بشكل يدعو أحياناً إلى الاستغراب، وأحياناً أخرى إلى الريبة، فهل يمكن أن يقال في حقها: إن فيروس كورونا المستجد سيُعيد ترتيب الأسواق المحلية والأعمال الصغيرة وترشيق القوى العاملة في صالح وضع أكثر تماسكاً ومعقولية وواقعية؟!

لأنَّ ما يحدث اليوم في العديد من الأسواق الخليجية (تحديداً) لا يعدو كونه تشوهات هيكلية في بنية هذه الأسواق من حيث الأعمال الصغيرة التي يقال إنها إحدى روافع الاقتصادات العالمية، ولكننا نراها في دولنا معاول هدم لاقتصاداتنا، إذ إن الكثير من التجارب تشير إلى تأجير صاحب المحل السجل التجاري لمجموعة من العمالة المهاجرة في مقابل مبلغ مادي يستلمه من دون أن يعمل بهذا السجل، تاركاً إياه في قبضة هذه العمالة المستعدة للعمل ليل نهار في سداد المبلغ المعلوم، والمصاريف الأخرى من إيجارات ورسوم وفواتير ومرابح للعاملين في هذا "المشروع"، فكم يمكن أن يضاف إلى سعر البضاعة حتى يمكن للعامل المُهاجر أن يخرج رابحاً من هذه المسألة؟ في النهاية كم سيدفع المستهلك لقاء ما يشتري؟

إلى جانب كل هذا، فعلينا حساب ما يضاف من العمالة الأجنبية العاملة في هذه الأنشطة الاستهلاكية المتشابهة في كل شيء حتى في طريقة عرضها للبضائع، بقدر ما ينفق وما يُخرج من أموال إلى خارج البلدان، بدلاً من تدويرها داخلياً، فمن الكلاسيكيات أن الدولار الواحد ينتج أربعة دولارات حين يجري تدويره في السوق، وإخراج المليارات سنوياً من المنطقة التي تحدثنا عنها في مقال سابق يعني خسارة هذا التدوير بخسارة هذه المضاعفة.

نعم إننا نشهد أوضاعاً غريبة وكئيبة، ولكنها جديرة بالتأمل، وحريّة بأن تكون سبباً في تعديل بعض الاختلالات في الموازين.