سيناريوهات ما بعد الحقبة النفطية

النظام الضريبي ضرورة وطنية ملحة

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

تمر السلطنة بمرحلة مهمة لها استحقاقاتها وظروفها الاقتصادية والجيوسياسية، تتطلب مقاربات وأدوات جديدة للتعامل معها لضمان تحقيق الاستقرار وعزة وأنفة هذا الوطن العزيز.

ويتناول مقال اليوم موضوعا شائكا وجدليا، أرجو أن تتسع صدوركم لاستيعابه. كما أرجو أن يفتح هذا المقال المجال أمام نقاش عام وموضوعي من قبل الجميع ومن أهل الاختصاص، حتى لا تتعدد وجهات النظر حول ضرورة فرض الضرائب وأنواعها ومعدلاتها. وثمة إجماع على أهمية وجود نظام وفلسفة ضريبية تخدم المجتمع والتنمية، فالسياسة الضريبية أداة لا غنى عنها لتحريك العديد من المتغيرات وأنماط السلوك في الاتجاه المرغوب. والمجتمعات المتقدمة قاطبة تعتمد على فرض الضرائب بشكل مطلق لرفد الميزانية العامة للدول لتمكينها من القيام بأدوارها التقليدية من خدمات عامة في مجال الصحة والتعليم والأمن والحماية الاجتماعية وغيرها وتشكل الضريبة بمختلف أنواعها أكثر 95% من جملة الإيرادات العامة في تلك الدول، كما تصل معدلات الضريبة إلى ما يزيد عن 50.0% كما هو الحال في ضريبة الدخل في الدول المُتقدمة.

أما في الدول النفطية ومن بينها السلطنة، فقد أنعم الله عليها ببديل آخر متمثل في الإيرادات النفطية التي ترفد موازنات الدول النفطية بأكثر من 85% من الإيرادات العامة في المتوسط وكذلك الحال في السلطنة. وقد أدت الإيرادات النفطية دورها في العقود الخمسة المنصرمة بنجاح. إلا أن المتغيرات المتسارعة والمتقلبة في قطاع الطاقة وتغيير أنماط الاستهلاك لدى الدول والمجتمعات وظهور الطاقة المتجددة ونجاح التقنيات وتطبيقات الثورات الصناعية في الحد من استهلاك الطاقة الهيدروكربونية، كل ذلك أدى إلى انحسار كبير في الطلب على النفط وانخفضت أسعاره بنسبة 60% وكذلك خسرت الدول ومن بينها السلطنة أكثر من 60% من إيراداتها العامة مع بقاء الالتزامات كما هي أو بانخفاض طفيف. وأسفرت تلك التطورات عن لجوء الحكومة إلى الاقتراض بشكل كبير منذ 2014 إلى الآن حيث وصل الدين العام إلى مستويات غير مريحة لدولة تعتمد على مصدر وحيد للدخل يتعرض إلى ضغوطات في جانبي العرض والطلب، وصدمات سعرية متتالية، أدت إلى درجة عالية من عدم اليقين، وأربكت تنفيذ الخطط التنموية، واستمرار تقديم الخدمات الحكومية بجودة عالية.

ولتلك الأسباب ولعدم وجود خطة إصلاح مالي واقتصادي واضحة المعالم وغيرها خفضت المؤسسات الدولية ووكالات الائتمان التصنيف الائتماني للسلطنة إلى أدني المستويات، الآمر الذي أدى إلى ارتفاع نسب الفائدة وكلفة الدين إلى مستويات مرتفعة جدا، ناهيك عن صعوبة الحصول على التمويل اللازم.  ويأتي تخفيض التصنيف الائتماني للسلطنة، نتيجة لعدم وجود إيرادات ثابتة ومستدامة لرفد الموازنة العامة، فالإيرادات النفطية باتت تتسم بدرجة عالية من عدم اليقين وعد الاستدامة، كما أسلفنا، كما أن إيرادات الشركات الحكومية تخضع أيضا للتقلبات الاقتصادية وظروف السوق. ومن المعلوم أن تحقيق تحسن في التصنيف الائتماني مرتبط بشكل مباشر بإقرار إطار ضريبي واضح وشفاف وملزم يرفد الميزانية بدخل معلوم وذلك لكون المؤسسات الدولية لا تؤمن بالموارد الطبيعية المتسمة بالندرة ومعرضة لدرجة عالية من عدم اليقين كمصدر ثابت لتوفير الإيرادات للميزانية.

وعليه، يدرك الجميع أننا في معركة اقتصادية حامية الوطيس ويجب أن ندرك أن عدم وجود إطار ضريبي لمختلف أنواع الضرائب يعد تشوها للاقتصاد، كما أن التوسع في فرض الضرائب تشوه أيضاً في الاقتصاد، ويتمثل التحدي الكبير في كيفية إيجاد توازن بين نظام ضريبي قادر على رفد الميزانية العامة للدولة بقدر كافٍ من الإيرادات للقيام بواجباتها وأدوارها، وبين ضمان عدم تعرض الطبقات محدودة الدخل والطبقة المتوسطة والدنيا لضغوط مالية واجتماعية، وكذلك قدرة الشركات على القيام بأعمالها بربحية وتنافسية.

وتنقسم الإيرادات الضريبية بحسب الأدبيات الاقتصادية إلى قسمين؛ هما: الضرائب المباشرة، والضرائب غير المباشرة. ويشمل القسم الأول الضرائب على الدخل والأرباح ضرائب الدخل من الأفراد والموظفين والمستخدمين، إلى جانب ضرائب الدخل على الشركات والمشروعات. في حين يشمل القسم الثاني الضرائب على السلع والخدمات مثل ضريبة القيمة المضافة، وضريبة المبيعات والضرائب على التجارة والمعاملات الدولية. وتُفرض الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك كضريبة القيمة المضافة (تفرض على كل مرحلة من مراحل الإنتاج) وضريبة المبيعات (تفرض على المنتج النهائي). وهي تطبق على الجميع الغني والفقير بنفس النسبة. أما بالنسبة لضرائب الدخل على الشركات والأفراد فهي متدرجة وغالبًا ما تكون تصاعدية، بحيث تزداد نسب الضريبة المفروضة مع زيادة الدخل.

وفي النظام العالمي الحديث تتجه معظم الدول إلى ضريبة المبيعات وضريبة الدخل لكونها سهلة التحصيل وقليلة الأعباء الإدارية وأكثر حصيلة. ومجتمعياً تُعد ضريبة الدخل أكثر قبولاً لأنها مباشرة وتراعي الطبقات الأكثر تعرضاً وتحقق عدالة في إعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء. وهناك الكثير من السلبيات من فرض الضرائب بشكل عام، فهي تؤثر على الدخل الحقيقي للأفراد والشركات، لكن كذلك هناك العديد من الإيجابيات والوسائل والإجراءات الاحترازية لتقيل وطأتها على الطبقات الأكثر تعرضًا وذوي الدخل المحدود؛ حيث يمكن استثناء هذه الفئة الضعيفة من دفع الضريبة أو استثناء أو تخفيض الضريبة على بعض السلع والخدمات الأساسية كالطحين والأرز وغيرها. وهناك حلول وسياسات كثيرة للحد من آثارها السلبية على المجتمع والشركات.

وأياً ما كان الأمر، فإن وجود إطار جديد للضرائب يستوجب وجود إدارة قادرة على الفهم العميق للتأثيرات على مختلف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والقدرة على التعامل معها، وخطة تواصل وتوعية مجتمعيه بأبعادها ودورها وأهميتها.  ومن المهم أن نوضح أن فرض الضرائب لا يعني تسمين إيرادات الحكومة، وإنما ضمان استمرارها في تقديم الخدمات العامة بالشكل المطلوب. كما لابد من أن يترافق فرض الضرائب مع التغيير في العقد الاجتماعي والعلاقة من الحكومة ودافعي الضرائب من أفراد المجتمع والشركات؛ حيث يجب إعلاء مبادئ الحوكمة والمساءلة والشفافية وتوضيح جميع المسائل وأوجه الإنفاق.

ويأتي إيجاد إطار ضريبي واضح ومعلوم في إطار التحولات التي تستهدفها الرؤية المستقبلية "عمان 2040" والتي من بين أهدافها زيادة إجمالي الإيرادات غير النفطية (الضريبية وغير الضريبية) إلى حدود 18% كنسبة من الناتج المحلي في عام 2040، وهي لا تمثل سوى 8.5% في عام 2019. وهناك العديد من وجهات النظر التي ترى أن التسريع بإقرار نظام ضريبي في السلطنة ليس فقط ضرورة مالية تحتمها الأوضاع المتفاقمة لأوضاع تدني الإيرادات النفطية وكبر حجم الإنفاق العام واتساع العجز العام والدين الخارجي وتداعيات كل ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإنما هناك أهمية لطرح فلسفة وثقافة جديدة للضرائب تمثل أداة مهمة لتحقيق التحولات المنشودة في الأجل المتوسط والطويل إلى نموذج جديد للتنمية يؤمن الانتقال من نموذج تنموي يعتمد على الحكومة كمحرك رئيسي للأنشطة الاقتصادية في الاستثمار والإنتاج والتشغيل والاستيراد للسلع والخدمات والعمالة الوافدة متدنية المهارة والإنتاجية وإيرادات نفطية غير متجددة، إلى نموذج جديد تتعدد فيه قاطرات النمو المبنية على الشراكة في قيادة الأنشطة الاقتصادية ويعتمد على الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات والعمالة الوطنية هي قاطرة النمو الرئيسية وتعزيز الإنتاجية والتطوير والابتكار والمكون التكنولوجي والقيمة المضافة وتعزيز الإيرادات غير النفطية.

وأنا من أنصار الحلول الاقتصادية وليس المالية، كالذي يطرحه المقال، لكن يجب أن نعي أن الحلول الاقتصادية وتشغيل قاطرات الإنتاج لتشغيل قطاعات التنويع والاستثمار والتصدير ستأخذ بعض الوقت، في حين أنَّ المساحة المتاحة لنا ضيقة والاعتماد على الاستدانة وبيع أصول واستثمارات الدولة لدفع الرواتب وتسديد خدمة الديون وفوائدها المرتفعة وتسيير أمور الدولة، له عواقب وخيمة قد تضطرنا إلى ظروف أكثر قسوة، والاختيار بأيدينا.

وختاماً.. وجود نظام ضريبي واضح يُوفر حصيلة معلومة من الإيرادات للميزانية العامة أمر لا مفر منه وفي غاية الأهمية ويحد من لجوئها إلى مواصلة الاستدانة، علاوة على أهمية التقدم في مسار التحول الاقتصادي المبني على إدارة السياسات الاقتصادية والإنتاج وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر والذي ينظر إلى تصنيف الوكالات والمؤسسات الدولية لآفاق التنمية للاقتصاد باهتمام، ويبقى ذلك الأمر المفصلي والتوازن الأهم في تقدير معدل الضريبة والسياسات المصاحبة لها للحد من تأثيراتها على الفئات الضعيفة وتنافسية الشركات وبيئة الأعمال. إننا نمر بمرحلة استثنائية وأمام واقع جديد لإنهاء الحقبة الريعية.

ولن ينفعنا إلقاء اللوم على عوامل عديدة قد تكون صحيحة، لكن علينا الاعتراف بوجود المشكلة أولاً، وأن علينا حل هذه المشكلة، وقد لا يسعفنا الوقت لحلها بالطرق الاقتصادية التقنية وحدها، كما لايمكن مجابهتها بعد انتهاء الحقبة النفطية.  فالجميع شركاء في هذا الوطن والجميع جزء من الحل.

والله والوطن من وراء القصد.