سماحة المفتي وبيان "آيا صوفيا"

 

بدر بن خميس الظفري

"آيا صوفيا".. كلمة تعني مكان الحكمة المقدَّسة، وهو مَعْلَمٌ يقع في مدينة إسطنبول التركية، وقد شُيَّـد أول مرة في عهد الإمبراطور البيزنطي (جستنيان) في القرن السادس الميلادي، وظل كنيسة للمسيحيين لأكثر من تسعمائة عام، حتى فتح المسلمون القسطنطينية (إسطنبول) في عهد الدولة العثمانية عام ألف وأربعمائة وثلاثة وخمسين ميلاديا، واشترى الخليفة آنذاك محمد الفاتح كنيسة (آيا صوفيا) من الرهبان وحوّلها إلى مسجد، واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى سقوط الدولة العثمانية وتولي مصطفى كمال أتاتورك الحكم في تركيا؛ حيث أصدر قرارا بتغيير وضع المَعْلَمِ من مسجد إلى متحف عام ألف وتسعمائة وخمسة وثلاثين ميلاديا، وهو القرار الذي قامت قبل أيام محكمةُ تركية بإلغائه كونه غير قانوني، وعلى إثره أصدر الرئيس التركي مرسوما ردّ بموجبه وضع "آيا صوفيا" من متحف إلى مسجد، كما كان عليه من قبل.

وما إن انتشرت أنباء قرار المحكمة التركية، حتى أصدر سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان، بيانا نُشِرَ على حسابه في مدونة تويتر؛ تقدّم في صدره بالتهنئة للأمة الإسلامية والشعب التركي المسلم، والرئيس رجب طيب أردوغان "بِردّهِ معلم آيا صوفيا من جديد إلى بيت من بيوت الله"، وقد أثار هذا البيان العديد من ردود الفعل الدولية، وتناقلته عدة قنوات عربية وعالمية، وأدلى الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بدلائهم في شأن البيان.

وعند النظر إلى بيان سماحة المفتي، يُمكننا تقسيمه إلى شقين رئيسيين: شق احتفى فيه برجوع المسجد التركي إلى وضعه التعبدي بعدما قامت مجموعة من "الحاقدين على الإسلام المتآمرين عليه" بإلغاء وضعه من مسجد تقام فيه الصلوات إلى متحف تاريخي أثري، ووصف في هذا الشق الرئيس إردوغان في موضعٍ بـ "المحنك" وفي موضع آخر بـ "المغوار"، وشق آخر انتقد فيه بشدة المعارضين لقرار تحويل هذا المعلَمِ إلى مسجد، حيث وصف اعتراضهم بأنه "ضجيج الباطل الذي تنعق به حناجر المارقين"، حاثاً الشعب التركي على "السير قدماً في هذا الصراط المستقيم"، مطمئنا إياهم أن "قلوب المسلمين معكم، وألسنتهم تلهج بالدعاء لكم"، ثم اختتم سماحته بيانه بقوله تعالى "ولينصرن الله من ينصره ....  ولله عاقبة الأمور" (الحج:40-41).

وفي الحقيقة، فإن البيان لم يكن ليسبِّب كل هذا الصخب لولا حالة الاستقطاب السياسي التي يمر بها العالم العربي في علاقته مع تركيا، والجدل الكبير الذي يحوم حول الرئيس رجب طيب أردوغان، وتدخلاته التي يراها البعض غير قانونية في كل من ليبيا وسوريا والعراق، والدعم الكبير الذي يقدمه للجماعات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان؛ الأمر الذي جعل البعض يتساءل عن السبب الذي يجعل شخصية دينية مهمة مثل سماحة الشيخ الخليلي يدلي ببيان قوي جدا، خصوصا وأنَّ السلطنة كانت دائما ملتزمة بالحياد السياسي والديني الإيجابي، ولم تكن تتدخل مباشرة في الأحداث السياسية العالمية، لا سيما تلك التي تتعلق بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، بينما تساءل البعض: هل موقف الشيخ الخليلي يمثل الموقف الرسمي للسلطنة، أم أنه مجرد رأي شخصي نابع عن فرحة عالم مسلم غيور على مقدسات الإسلام وشعائره؟

إنَّ قرار تحويل متحف إلى مسجد، أو تحويل كنيسة إلى متحف في تركيا هو في الأصل شأن داخليٌّ وحق سيادي تركي، لا يحق لأحد أن يتدخل فيه، كما صرح بذلك الرئيس التركي حين قال: "اتخذنا هذا القرار ليس استنادا إلى ما سيقوله الآخرون بل في ضوء حقوقنا"، معتبرا أن الأمر يدخل ضمن "حقوق بلاده السيادية"، في ردٍّ على الإدانات الدولية التي طالت بلاده بعد صدور القرار.

ونحن لا نعجب من ردة فعل المسيحيين على القرار باعتبار معلم آيا صوفيا كان كنيسة من قبل، ويشعرون بشيء من الألم على إرجاعه إلى مسجد بعدما فرحوا برهة من الزمن بتحويله إلى متحف؛ فذلك من طبيعة البشر التي لا يُلامون عليها، كما عبَّر عن ذلك البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، عندما قال إنَّ التفكير في تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد "يؤلمه للغاية"، ولكن العجب كلّ العجب من مسلمين عرب أحسوا بالمرارة الشديدة من أن يحول المتحف إلى مسجد، فبدلا من أن يؤيدوا هذا الحدث أو على الأقل يصمتون عن التعليق عليه، قاموا على المستوى الشعبي والرسمي بمهاجمة تركيا وحكومتها، وكالوا لها من الاتهامات والعبارات البذيئة ما يخجل الإنسان حتى عن التفكير فيه، والأدهى من ذلك كلّه أن تصدر هذه الإساءات من بلدان تدعي أنها حامية الإسلام والتوحيد، والمتحدثة باسم الدين.

لقد كانت ردة فعل سماحة الشيخ الخليلي هي ردة فعل طبيعية لرجل غيور على دينه، رأى ضوءا ساطعا في نفق مظلم، وسحابة ممطرة في صحراء قاحلة، وبشارة طيبة في أُمةٍ كغثاء السيل نُزِعت مهابتُها من قلوب عدوها، وجُعِلَ الوهنُ في قلوب أتباعها، فطار قلبه فرحا بهذا الخبر، ولم يجد إلا مداد قلمه البليغ ليعبر عن غبطته، فجادت قريحته ببيان أرسله إلى الشعب التركي وقائده، من عالم مسلم إلى إخوانه المسلمين، ولم يدُرْ في خلده قط أنَّ نفوسا مسلمة ضعيفة الإيمان أعماها التعصب والحقد قد تعترض على إعادة بيت من بيوت الله إلى حضن المسلمين، بل وتهاجمُهُ وتسخر منه، متجاهلة قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"، والشنآن هو البغض والعداوة، ومعنى الآية: لا تجعلوا بغضكم لقوم يمنعكم من أن تعدلوا في حكمكم فيهم؛ فاختلافنا مع أي شخص لا ينبغي أن يكون حُجَّة لعدم مباركة خطوة تصدر منه فيها عزة للإسلام والمسلمين.  

وفي هذا السياق، نود الإشارة إلى رفضنا القاطع لما يمارسه البعض من هجوم طائفي على السلطنة من أراضي دول نعدها شقيقة وصديقة، وشجبنا القوي للمحاولات اليائسة التي تستغل كل فرصة، صغيرةً كانت أم كبيرةً، وكلّ حدثٍ، سياسيا كان أم دينيا أم اجتماعيا، من أجل إثارة الفتن في السلطنة، وتنديدنا المستمر باستحضار أحداث تاريخية إسلامية مظلمة مرّ عليها أربعة عشر قرنا من الزمان، وإسقاطها على حاضرنا المشرق من أجل تأجيج النعرات الحزبية، واستنهاض مشاعر العداء المذهبي بين العمانيين المسلمين، وإخوانهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بسبب كتابات سُطرت في عصور غابرة، كانت لها ظروفها الخاصة، وبسبب فتاوى عتيقة لم تعد صالحة لهذا الزمن، الذي أصبح فيه العالم كتلة مترابطة تجمع بينه مصالح مشتركة، بينما ما زال البعض يصر على تقسيم الناس بناء على انتمائه لفرقة أو مذهب معين، داعين هذه الدول إلى لجم أفواه هؤلاء، فهم لا يسيؤون لعُمان وأهلها لأنهم على قلب رجل واحد، بل يسيؤون لأنفسهم ولبلدانهم وحكامهم، وسيلفظهم العالم بأكمله يوما ما.

تعليق عبر الفيس بوك