صراع المحاور بالإقليم وغياب الرؤية الوطنية (2)

جمال الكندي

سياسيًّا.. يتَّخذ صراع المحاور بُعداً آخر غير البُعد العسكري؛ فهو يكمن في اختلاف الفكر السياسي في إدارة البلد، وهذا الأمر قد يكون طبيعياً في الدول ذات المنحى الديمقراطي الحقيقي، ولكن في بُلداننا العربية هو حبر على ورق؛ لأنه مُرتبط بمصالح هذه الدول أو تلك.

فمطلب الديمقراطية هو لُعبة غربية وتستخدم حسب المقاس الأمريكي والغربي؛ فإذا طُبقت الديمقراطية حسب ما هو معروف عنها عبر صناديق الاقتراع، وجاءت بحزب حاكم ضد الأجندة الأمريكية والغربية فهذا الأمر مرفوض، وقد ذَكَر ذلك المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي" في كتابة المترجم إلى العربية "من يحكم العالم"؟ حيث يقول: "إنَّ خشية الولايات المتحدة من الديمقراطية لن تجد لها تجليًّا أكثر وضوحاً إلا حينما جرت في يناير 2006م انتخابات في فلسطين، أعلن أنها حرة وعادلة من قبل المراقبين الدوليين وفازت فيها حركة حماس، وكان الرد الفوري للولايات المتحدة ومن ورائها أوروبا بفرض عقوبات قاسية على الفلسطينيين لتصويتهم بالطريقة الخطأ يعني التصويت لحركة حماس"، ويضيف نعوم كذلك أنَّ أمريكا تدعم الديمقراطية إذا وافقت أهدافها الإستراتيجية والاقتصادية"؛ من أجل ذلك نرى صراع المحاور في لبنان وتونس على سبيل المثال واضحاً بسبب التأثيرات الخارجية، وفي لبنان أكثر وضوحاً وبشكل سافر وعلني منه في تونس؛ فهنالك قوَّتان سياسيتان تتصارعان سياسيًّا في لبنان؛ هما: قوى الرابع عشر من مارس، وهو تحالف سياسي يلقى دعماً من أمريكا وفرنسا وبعض دول الخليج تقابلها قوى الثامن من مارس، والتباين بينهما أصبح ملموساً بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري"، ويكمُن في العلاقة مع سوريا وفي سلاح المقاومة اللبنانية، وأمور سياسية أخرى قسمت البلد بين هذين المحورين ومؤخراً زادت الضغوط الأمريكية على الحكومة اللبنانية الحالية لاستبعاد مكون رئيس من قوى الثامن من آذار (مارس) وهو "حزب الله" من الحكومة الحالية والمقبلة، والمطالبة بسحب سلاحه الصاروخي الذي هو سلاح الردع في وجه العربدة الصهيونية في لبنان، وهذ السلاح هو سلاح كرامة اللبنانيين الشرفاء؛ فهو الذي حرَّر الجنوب اللبناني عام 2000م، وكسر هيبة الجيش الإسرائيلي عام 2006م في حرب تموز (يوليو) والمطالبة بسحب هذه السلاح هو خدمة مجانية للكيان الصهيوني، وهنالك أزمة أخرى تفتعلها أمريكا وحلفاؤها من أجل إخراج "حزب الله" من معادلة السياسة اللبنانية، وهي أزمة صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي وقانون قيصر؛ فكلها أدوات أمريكا لإبعاد "حزب الله" من الحكومة، فهل هذه هي الديمقراطية التي تريدها أمريكا في بلداننا العربية؟ لا أظن ذلك فهي عدوة الديمقراطية التي لا تخدم مصالحها كما قال نعوم تشومسكي.

صِراع المحاور في لبنان لن ينتهي إلا برؤية وطنية خالصة يتَّفق عليها اللبنانيون بعيداً عن التدخلات الخارجية، وهذا الأمر في لبنان يتطلب تغييراً جذريًّا في العملية السياسية اللبنانية المبنية على المحاصصة الطائفية التي هي قائمة على التدخلات الخارجية بسبب المرجعية الخارجية لكل مكون لبناني وهذه هي أكبر مشاكل لبنان.

تونس ما بعد الربيع العربي عصفت بها كذلك رياح لعبة المحاور السياسية المرتبطة بالخارج، وهذا نراه في برلمانها وحكومتها؛ فهنالك فريق سياسي رئيس في تونس مرتبط بما يسمى "الإسلام السياسي"، وتؤثر على قراراته دولة إقليمية فاعلة في المنطقة هي تركيا، وفريق آخر يناهض هذا التوجه، والأمر في تونس ربما يكون أقل حدة بكثير من لبنان؛ وذلك لخصوصية لبنان بوجود كيان غاصب على حدودها ومحتل لجزء من أرضها، وفي وجود الحرص الأمريكي الشديد على أمن إسرائيل بالقضاء على أي صوت ضدها: سياسيًّا، وعسكريًّا.

فصِرَاع المحاور في تونس يضبطه وجود رئيس وطني عروبي بوصلته فلسطين والقدس مثل الرئيس قيس سعيد؛ فهو شاطئ الأمان حينما تعصف بتونس رياح التدخلات الخارجية السافرة؛ لذلك فإنَّ اختلاف هذه المحاور السياسية في تونس هو اختلاف في إطار التنوع الصحي الذي يثري العملية السياسية خاصة بوجود رئيس يعرف كيف يعيد البوصلة الوطنية إلى مكانها الصحيح إذا حادتْ عن طريقها، ونرجو أن لا نشهد ذلك في تونس بشكل واضح مثلما نراه في لبنان.

وختاماً.. صراع المحاور السياسية في أي بلد يبقى ظاهرة صحية إذا كانت الرؤية وطنية خالصة، ومستمدة من ثوابت البلد ولا تخضع للإملاءات الخارجية، ولها إستراتيجية واضحة تخدم البلد سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولكن التكتيك مختلف من محور إلى آخر بشرط أن تبقى السيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي والاقتصادي خطاً أحمر، وهذا ما يُعقِّد الموضوع ويجعله من الصعوبة بمكان بسبب التدخلات الخارجية، وهو ما تشهده اليوم دولنا العربية بعد نكسة الربيع العربي، ولكن حينما تتوحد الرؤية الوطنية على قاعدة المصلحة العامة للدولة، وتتجاوز خلافات المحاور السياسية، التي يراد لها أن تختلف لأنها مدخل الأطماع الخارجية وهو مبدأ "فرق تسد"، وهذا ما يحدث في فلسطين اليوم من توافق بين حركة فتح وحماس، ومباركة الفصائل والشارع الفلسطيني لهذه الخطوة، وكل ذلك بسبب وضوح الرؤية الوطنية بعد القرار الصهيوأمريكي بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، ولا يُوَاجه هذا الضم إلا بالوحدة السياسية بين أكبر فصليين في فلسطين لمواجهة تبعات قرار الضم سياسيًّا وعسكريًّا، وهذا الأمر أربك القيادة الإسرائيلية ومن ورائها أمريكا ومن يدعم قراراتها الظالمة في فلسطين، وهذا بحد ذاته دليل على أن توحد الرؤية الوطنية هو المطلوب، حتى ولو تعددت المحاور السياسية.