محاولة لفهم تردِّي القيم العامة

 

 

غسان الشهابي  *

لطالما تأملنا تلك الصور التي تحكي مفارقات الزمن الماضي عن هذا الزمان، وغالباً ما تروي هذه الصور مدى النظافة العامة في الشوارع والمباني، والأشكال العامة للناس في أرجاء من الوطن العربي، خصوصاً في الحواضر الأساسية المهمة، ثم نأتي إلى الحاضر الذي يرينا ما يبكينا على ذلك الوقت الذي انقضى، فتغيرت الشوارع وسادتها الفوضى، وانحدر الذوق العام، وما عاد الاهتمام بالمظهر العام أمرًا أساسيًّا، بل الأساس هو لبس أي شيء، في أي مكان، لأي سن، فما عاد يفرق كثيراً.

الأهم من الشكل العام هو الذوق العام، ذوق الناس تجاه بعضهم البعض، نوعية الكلام، بدءاً من التحية مروراً بالكلام المتبادل بين الناس في أماكن العمل أو المواصلات، ونتساءل: أين ذهب هذا كله؟ ومتى بدأ عصر التدهور؟ والسؤال الأهم: هل سنعود إلى ما كنا عليه؟

نُقل أن رئيسة الوزراء الهندية ذائعة الصيت أنديرا غاندي والدها الزعيم جواهر لال نهرو: "ماذا يحدث في الحرب؟"، رد عليها: "ينهار الاقتصاد..."، قالت: "وماذا يحدث بعد انهيار الاقتصاد؟"، أجابها: "تنهار الأخلاق"، تساءلت: "وماذا يحدث أيضاً لو انهارت الأخلاق...؟!"، رد نهرو عليها بمنتهى الحكمة: "وما الذي يبقيك في بلد انهارت أخلاقه؟! يستطيع الإنسان أن يتعايش في أيِّ مجتمع فيه بعض النقص الغذائي، أو الاقتصادي، أو الترفيهي... إلا انعدام الأخلاق! والسبب: يسود اللئام والسّفلة... وتذهب الأعراف والقوانين والخير... ويتحوّل كل شيء إلى غابة... ولهذا تصبح الحياة الكريمة شبه مستحيلة".

بصرف النظر عن صحة النقل، وبغضِّ النظر عن صوابية المنقول، فإنَّ الجانب الاقتصادي واحدٌ من أهم العوامل التي إنْ انهارت يبدأ الناس في التوحش، وينسون مكارم الأخلاق، تبدأ المشاغل الأخرى أكثر طغياناً على الفرد من أن يتصرف بشكل جيد مع الآخرين، سواء في بلد أنهكته الحروب فانهار اقتصاده، أو بلد عضه الفقر فتصبّر أهله حتى نفدت منهم آخر قطراته.

رُبما حدث العكس من ذلك كله في دول الخليج العربية، فلما كانت الأوضاع الاقتصادية متواضعة، بل وصعبة على الكثير من الناس، كانت القلوب أرحب، والنفوس أطيب، والمروءة سائدة بين الناس، على الرغم مما ترينا إياه الصور القديمة من حال متردٍ من القذارة على المستوى العام والخاص، والناس إذ يمشون حفاة، والثياب المهترئة وقد علتها الأوساخ لقلة الغسل، وضعف الموارد، في الوقت الذي ما عادت شوارع اليوم تشبه الأمس، ولا التنظيم العمراني هو ما كان عليه في السابق، وعلى الرغم مما طرأ على الناس من تحسن في الجانب الاقتصادي، وإن بشكل متفاوت؛ إلا الجانب الأخلاقي والقيمي في تراجع أيضاً ولا شك، وأبسط ما أنتجه الوضع الحالي يتمثل في هذا التفاخر الأجوف بالقدرة الشرائية لما أنتجه الآخرون، وليس شيئاً آخر!

المحصلة العربية أنَّ هناك صدعاً كبيراً في المنظومة القيمية لا علاقة له مباشرة بالشق الاقتصادي، وإن كان هذا الشق مؤثر ولاشك، لكنه تداعٍ مستمر يحتاج إلى التصدي له لفهمه فقط، إذ إن عودة "الأيام الحلوة" هو أمرُّ من الحلم في تفلّته.

* كاتب بحريني