وحدة السياسات العامة.. المطلب الأكثر إلحاحًا

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

www.omaninvestgateway.com

لا بُد لنا في السلطنة أنْ نَبْقَى على ثقة بأننا نتقدَّم بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين، في هذه المرحلة الاستثنائية بمُتغيراتها الدولية والمحلية، وعلى كافة الأصعدة. إلا أنَّ تحقيق التحولات المطلوبة بفعل هذا التقدُّم ليس عملية ميكانيكية ولن تَحْدُث تلقائيًّا، بل تحتاج القصد والدراية والعمل في منظومة الفريق. كما يجب الوصول إليها عبر طريق مدروس ومعبَّد نتخلى فيه عن العفوية في إدارة العملية التنموية، في ظل وجود بديهيات اقتصادية واجتماعية وسياسية ومعطيات واضحة.

ومن غَيْر الممكن بأي شكل من الأشكال -في أبسط بديهيات التخطيط- أنْ نبقى بلا منظومة تدير وتنسق السياسات العامة المختلفة: النقدية، والمالية، والعمالية، والتجارية، والضريبية، والاستثمارية، والصناعية... وغيرها. وأنْ تَبقى قضاياها في شتات بين الجهات المختلفة خاضعة لعمليات شد وجذب غير مدروسة، وذات تأثيرات واضحة على المسار التنموي.

ولا معنى -بتقديري- للتأخُّر في ولادة هذه المنظومة، والعالم يشهد تحولا ملحوظا في تحديد وتوزيع الأدوار والمسؤوليات تماشيا مع تسارع وتجدد الأولويات، وتعاظم التحديات. وعلى الرغم من إيماننا المطلق بسلامة السياسات العامة في السلطنة -من حيث أدوات وأسلوب وآليات التنمية، التي حققت أهدافها في مراحل سابقة من عمر السلطنة- إلا أنَّ طبيعة المرحلة الحالية والمقبلة وتحدياتها جنبا إلى جنب مع جاهزية ومقومات السلطنة، تستوجب تحولا صريحا أساسه الأدوار المنوطة بالفاعلين الرئيسيين في مسار التنمية.

وتُشير الادبيات في هذا الصدد إلى أنَّ السياسات العامة هي توجُّهات وقرارات وأفعال الحكومة للتعامل والتأثير على المتغيرات الكلية المختلفة الاقتصادية والاجتماعية، وحل قضايا تتعلق بالأفراد والمجتمع ومؤسسات القطاع الخاص والحكومة، وهي تدخُّلات مدروسة مباشرة من الحكومة لترجمة الفلسفة التي تنتهجها للوصول إلى الأهداف والرؤية التي تسعى لتحقيقها في المجمل. وتكون السياسات العامة سارية على الجميع دون استثناء. وبطبيعة الحال، هناك من سيتأثر ويؤثر في ذات الوقت بالسياسات العامة، التي يتوقف نجاحها على مدى التناسق والتناغم والانسجام بين كافة السياسات العامة المختلفة. والتنمية في حقيقة الأمر ما هي إلا مُحصِّلة لأداء السياسات العامة المختلفة: المالية، والنقدية، والعمالية، والاستثمارية، والتجارية، والضريبية... وغيرها من السياسات المختلفة.

ويُدرك صُنَّاع ومتخذو قرارات التنمية في الدول التي حققت قفزات تنموية أنَّ التنمية الاقتصادية عملية في غاية التعقيد والحساسية وتحقيقها يتطلب نظرة شاملة، واستخدام سياسات وآليات متعددة، وإن الأداء الاقتصادي يعتمد على أداء منظومه متكاملة، وإنَّ فهم وتفكيك عناصر السياسات الاقتصادية وقياس أثرها وإدراك التعقيدات المرتبطة بها من الأسس الواجب مراعاتها في إدارة الدول. وأنَّ الانتقال من مرحلة الانحسار والكساد إلى مرحلة النمو والازدهار مرهونٌ بتطبيق السياسات العامة المناسبة، والتي تعمل كمستشعرات وحساسات لتوجيه المتغيرات المختلفة في الاتجاه المطلوب. وأنَّ التأثير على القطاع الحقيقي والقطاع المالي والفاعلين في عملية التنمية بطريقة مدروسة يحتاج إلى مايسترو (وحدة السياسات) يضبط إيقاعَ كل المتغيرات للاستمتاع بسيمفونية التنمية.

عندما نقول إنَّنا سنصنع المستقبل، وسنحقق رؤية عمان 2040، وما تنادي به من مسارات لا رجعة فيها، كمسارات الإنتاج والتصنيع المحلي، والتحول الرقمي، والقطاع الخاص وريادة الأعمال، وتعظيم القيمة المحلية المضافة، والتصدير وحماية المنتج المحلي، والتحول إلى الطاقة الشمسية، والشركات المجتمعية في الولايات والمحافظات، والاستثمار والتعاون الدولي وتحقيق الاستدامة المالية... وغيرها من ملفات، فإننا ندرك تماما أنَّ تحقيقها يفرض ويستلزم وجود سياسات عامة واضحة المعالم تضبط بوصلة التحولات وأداء المتغيرات المختلفة في الاتجاه المطلوب. لذلك؛ فتحقيق الرؤية يتطلب تضافر منظومة متكاملة يُسهم فيها جميع الفاعلين، ولن تنجح بالعمل في جُزر منعزلة. فالأمر يتطلب سياسات عامة قادرة على أحداث تغيرات مهمة في عناصر الإنتاج بالمجتمع بدءا بالإنسان وأهمية وإيمانه بقيم الإنتاجية والادخار وريادة الأعمال وتغيير أنماط سلوكه.

ويتَّفق الكثير معي أنَّنا على مُفترق طرق مهم، يستوجب إحداث تغيرات ذكية عديدة على مختلف الأصعدة، والتي لن تتأتى دون دور واضح وحازم ومدروس للسياسات العامة، والتي يجب أن تُدار من قبل جهة تمتلك صلاحيات وقوة التأثير على جميع الفاعلين والمتغيرات الاقتصادية وعناصر الإنتاج؛ سواء رأس المال والسياسات العامة المحفزة للادخار وتوجيه الائتمان إلى القطاعات الإنتاجية، وتوافره بالتكلفة المناسبة، والدور الجديد للبنوك وشركات التمويل. كذلك سُوق العمل والسياسات العامة المشجِّعة على انسيابية انخراط العمانيين للعمل في القطاع الخاص وريادة الاعمال، وليس الحكومة والحد من الاعتماد على العمالة الوافدة متدنية المهارة، كذلك الأرض وما تَزْخَر به من موارد وبنية أساسية وموقع إستراتيجي، والسياسات العامة المشجعة على حُسن استغلال تلك الموارد والتصدير واستخدام الموانئ المحلية، وتقديم حوافز على التصنيع والقيمة المحلية المضافة، والعنصر الرابع هو الإدارة؛ من خلال بناء منظومة وبيئة أعمال يعمل بها الجميع بانسجام وتنسيق وفي اتجاه واحد.

ونُشِير في هذا الإطار إلى السياسات العامة المطلوبة للتأثير على أدوار الفاعلين في عملية التنمية؛ وهم: الأفراد والأسر العمانية والتأثير على أنماط سلوكهم واستهلاكهم، وأخذهم بالأسباب لاكتساب المعرفة والتعلم والمهارات المطلوبة لمجابهة التحديات المختلفة، كذلك الحال في السياسات العامة المطلوبة للتأثير على مؤسسات القطاع الخاص التي تعاني من تفتتها في مؤسسات صغيرة، والاعتماد الكبير على العطاءات الحكومية والاستيراد والعمالة الوافدة، وتواضع قُدرتها على المساهمة في التحولات المطلوبة في مجال الاستثمار والإنتاج والتصدير، وخلق فرص عمل لأبناء الوطن، والمساهمة المحدودة في رفد الموازنة العامة من خلال الضرائب، وكذلك السياسات العامة للتأثير على الحكومة ذاتها؛ كونها اللاعب الأبرز والمؤثر من خلال تغيير أساليب العمل وانتهاج سبل نحو الرقمنة والتسهيل والإنتاجية.

وفي سياق مماثل، فإنَّ تحقيق توازن الدورة التجارية المحلية الصغرى؛ المتمثلة بين ما ننتج وما نستهلك وما نعمل، وبين ما نستورد وما نصدر ومن يعمل. تَوَازُن هذه الدورة لن يتحقق بدون حزمة سياسات عامة تعمل على مسارين متوازيين؛ الأول: زيادة الدخول المتولدة للاقتصاد العماني من خلال عدد من القنوات؛ أبرزها: جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة الصادرات بمختلف أنواعها، خاصة تلك التي تحمل زيادة في المكونات والقيمة المحلية المضافة، والمسار الآخر يَكمُن في الحد من خروج الأموال من الاقتصاد العماني كتحويلات العاملين والشركات والتحويلات مقابل استيراد السلع والخدمات. والجدير بالإشارة أنَّ تصويب دورة الأنشطة التجارية المحلية وحُسن إدارتها في المدى القصير له تداعيات مباشرة على تصويب وحسن إدارة الدورة الاقتصادية المحلية في الأجل المتوسط والطويل في إدارة مختلف الظروف والمتغيرات المحلية والدولية في مراحل الرواج (السنين السمان)، ومراحل الانحسار (السنين العجاف)؛ حيث إنَّ استمرارية سنوات الرواج وتطوير الأداء تتطلب سياسات عامة تختلف باختلاف المعطيات والموارد والإمكانيات. وهذا ما دائما ما ندعو إليه في كتاباتنا وما يُسمَّى بإعادة هندسة الاقتصاد العماني.

ونُشِير في معرض الحديث عن السياسات العامة، إلى أمر في غاية الأهمية، ولا يقل أهمية عن هذه السياسات، وهو الآلية التي يتمُّ فيها تصميم ووضع السياسات؛ حيث يجب مشاركة أصحاب المصلحة في القطاعات ذات الصلة في عملية وضع السياسات العامة. فكما كانت رؤية عمان 2040 -والتي تمثل السياسة التنموية بعيدة المدى- مُنبثقة من مشاركة مجتمعية واسعة، فلا بد من الاستئناس بأهل الاختصاص في القطاعات الاقتصادية عند تصميم هذه السياسات، وكما يقال: "أهل مكة أدرى بشعابها"؛ فإنَّ الفاعلين في القطاع الخاص وبيوت الخبرة الوطنية والباحثين والاقتصاديين يُمكن أن يُسهموا في تحسين وتطوير السياسات العامة لضمان تأثيرها وفعاليتها، كما أنَّ مشاركتهم تتيح لهم التنبؤ بها، وتعزز من شفافية الحكومة في اتخاذها. ونشير هنا إلى أنَّه في الدول المتقدمة، تضطلع مؤسسات القطاع الخاص العملاقة بدور مهم في إبداء الرأي وتصميم تلك السياسات.

... إنَّ العلاقات الاقتصادية والاجتماعية متشابكة ومترابطة، وتتطلب فهمًا واستيعابًا لمكونات ونسيج ومقومات المجتمع العماني، التي تنبثق منها سياسات عامة اقتصادية واجتماعية... وغيرها؛ للتأثير على المتغيرات الاقتصادية المختلفة، بُغية تحفيز حركتها في اتجاه معين. فالحلول المُجتزأة لن تنجح. إننا نحتاج إلى وحدة سياسات عامة قوية قادرة على فرض سياسات اختراق محددة وواضحة المعالم من بدء التنفيذ إلى تحقيق التحولات التنموية وإعادة هندسة وهيكلة الاقتصاد حسب المعطيات الجديدة. وينبغي أن تولي السياسات العامة الاهتمام بملفات كبيرة من منظور إستراتيجي قادر على اختراق الرتابة في الوضع الراهن.

نعم، هناك ضرورة مُلحَّة لتكثيف استخدام وحوكمة السياسات العامة المختلفة؛ بدءا بالسياسة المالية ودورها في أخذ تدابير احترازية والمحافظة على الاستقرار المالي. وكذلك السياسة النقدية ودور البنك المركزي في إيجاد تفاهمات مع البنوك فيما يتعلق بالأفراد ومؤسسات القطاع الخاص المعسرة. وتخفيض سعر الفائدة على القروض وتوجيهها إلى القطاعات الإنتاجية، وكذلك الحال بالسياسة التجارية والصناعية التي بيد وزارة التجارة والصناعة، وسياسات العمل والتي بيد وزارة القوى العاملة، سياسات الاستثمار وغيرها من السياسات، يجب أن تكون هذه السياسات في حالة استنفار، ونكثف من استخدامها؛ فالاقتصاد والتنمية ما هما إلا محصلة لأداء هذه السياسات.

... إنَّ الاستسلامَ ليس من شيمنا أهل عُمان؛ فذلك هو خيار العاجز الذي لم يقرأ تاريخ عُمان، إنما خيارنا يتطلب ثباتا وجسارة وشغفا وابتكارا، وساعات عمل طويلة، وحبا عظيم لتراب هذا الوطن، وتعاضدا بين أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال والحكومة، وإنزال خرائط الملف الاقتصادي من الأرفف والبدء في العمل بدماء جديدة تملك روحَ الشباب، مستندة إلى معرفة عميقة لترابط المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.