المنتديات والملتقيات الفكرية في الخليج

 

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي **

تحتضنُ العديد من العواصم الخليجية مُنتديات ومُلتقيات فكرية مُؤثِّرة في صياغة المشهد، واستشراف المستقبل، وتمثل بذلك قوة ناعمة، ومن بين هذه المنتديات: منتدى الدوحة، ومنتدى الخليج والجزيرة العربية، وحوار المنامة، والمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض، وملتقي أبوظبي، وغيرها، وجميعها تُشارك فيها أعدادٌ كبيرة من الشخصيات الإقليمية والعالمية، من خلفيات علمية واهتمامات فكرية متباينة، تُغطِّى العديد من القضايا المُهمة في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية وغيرها، وتعمل على وربط هذه القضايا والملفات بمستقبل المنطقة على شتى المستويات الاستراتيجية والتكتيكية.

وتشمل مضامين هذه المنتديات موضوعات تمَسُ مفاصل الحياة في دول المنطقة، مثل التحولات في جوانب الطاقة، وقضايا المناخ، والعمل، والأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والاتصالات، وتحديات الأمن القومي بمعناه الواسع؛ وذلك في محاولة للتعرف على أثر هذه التحولات على دول المنطقة، ومن ثم الخروج بتوصيات وأوراق استراتيجية تساعد مُتخذي القرار في الدولة المُنظِّمة، وربما يستفيد منها آخرون.

وتشير الإحصائيات إلى زيادة مضطردة في أعداد المراكز الفكرية في مختلف دول العالم. وعلى المستوى الخليجي تُظهر الإحصائيات أن الكويت والإمارات العربية المتحدة تضمان 20 مركزًا في كل منهما، وقطر والبحرين 18 مركزًا لكل منهما، فيما يوجد في المملكة العربية السعودية 25 مركزًا. وهناك دول أخرى في المنطقة لديها عدد أكبر من هذه المؤسسات الفكرية؛ مثل: إيران 87 مركزًا، وتركيا 53 مركزًا، ومصر 47 مركزًا، حتى دولة الاحتلال الإسرائيلي 78 مركزًا.

ولا يخفى أن عقد مثل هذه المنتديات يحقق الكثير من الإيجابيات، كما تخرج بتدخلات مدروسة تساعد على إيجاد مُقاربات جديدة في المعادلات التنموية للدول، وربط كثير من الأفكار بمنظور استراتيجي مختلف.

ويجري التحضير لهذه المنتديات وإدارتها من خلال مراكز فكرية في هذه العواصم، يُسخَّر لها الأسباب والظروف لتؤدي العديد من الأدوار المُهمة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: إيجاد أرضية لتأطير نقاشات داخلية وخارجية بين المثقفين والإعلاميين وصُنَّاع القرار السياسي، من أجل توحيد الجبهة الداخلية وتعزيزها. كما إن هذه المراكز تتولى مسؤولية قراءة توجهات الرأي العام تجاه سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن مواقفها السياسية، وهي لذلك تعد أداة مُثلى ولا غنى عنها للدولة العصرية من أجل صناعة القرارات ووضع السياسات العامة المستندة على المعرفة المُسبقة بنتائج هذه السياسات.

ونظرًا لأنَّ مراكز الأبحاث ليست بالضرورة جزءًا مُباشرًا من الجهاز الحكومي لأي دولة؛ فهذا يمنحها مساحةً للتفكير، وهامشًا للاجتهاد وحرية في التحليل، بعيدًا عن التحيُّزات القائمة داخل الحكومة؛ مما يُسهم في توسيع خيارات صاحب القرار السياسي.

وتستعين عواصم العالم المختلفة بدور المراكز الفكرية لدعم المؤسسات الحكومية؛ نظرًا لقدرتها على تقديم الأبحاث العلمية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُجيب على العديد من الأسئلة التي يحتاجها صاحب القرار في عمله اليومي، وهي مسألة بالغة الأهمية؛ لأن هذه المراكز قادرة على تقديم الخيارات والتوصيات والمُلخَّصات لصاحب القرار، دون أن يتطلب ذلك منه التعمُّق في تفاصيل القضية، لعدم وجود الوقت الكافي لديه للقيام بذلك. وتعمل هذه المراكز أيضًا على رصد التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة والعالم، والتي تؤثر مباشرةً على الدولة، ومن ثم شرحها وتوضيحها في أبحاث مُتخصِّصة تُنشر وتُرسل ملخصاتها لصانع القرار السياسي. وغياب هذه المراكز ودراساتها وبحوثها، يتسبب في خسارة فرص سياسية واقتصادية وثقافية كان من الممكن الاستفادة منها لتعزيز دور الدولة إقليميًا ودوليًا.

في المقابل، فإنَّ عدم وجود منصات حوار ومراكز فكرية قادرة على وضع القضايا المجتمعية في أُطُرٍ موضوعية، يتسبب في ترك المجال لهكذا نقاشات لمنصات التواصل الاجتماعي، والتي تعاني من فجوة معرفية وتحليلية هائلة، تتسبب في صياغة سردية مُضلِّلة وغير صحيحة؛ الأمر الذي لا يخدم لا الدولة ولا المجتمع.

وتتعاظم هذه الإشكالية مع تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والتي تجعل من الصعب التمييز بين الحقيقي والمُزيَّف، وبين المُستخدِم المحلي والخارجي، لا سيما في ظل ظواهر سيبرانية بالغة السوء مثل الجيوش الإلكترونية المعروفة باسم "الذباب الإلكتروني".

وفي السياق الوطني، ونحن نقترب من مطلع العام الجديد 2026، وبدء تنفيذ خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة، فإنَّ ثمّة حاجة مُلحَّة لتغطية الفجوة المعرفية والتحليلية الواضحة في هذا الجانب. ومن المهم إنشاء مراكز فكرية تستطيع العمل جنبًا إلى جنب مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص، من أجل تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني محليًا وإقليميًا ودوليًا.

ولا شك أنَّ هذه المراكز ستخلق منصةً لحوارٍ رصينٍ بعيدًا عن صخب وسائل الإعلام وضغوط منصات التواصل الاجتماعي، وستتولى قيادة حوارات وطنية لقضايا محورية، من شأنها تحقيق تحوُّلات نوعية ضرورية لمسارات التنمية؛ بما يتوافق مع مُستهدفات رؤية "عُمان 2040".

كما إن هذه المراكز ستحرص على إقامة علاقات مع مراكز الفكر والمنتديات النظيرة في مختلف الدول العربية والأجنبية؛ بما يحقق الاستفادة المُثلى من أفضل الممارسات، ويساعد على تقديم توصيات تُحدث تطورات نوعية في العديد من المجالات، مثل المناخ الاستثماري، والتشريعات المنظمة لبيئة الأعمال، علاوة على المساهمة في وضع الخطط لترويج السلطنة لجذب الاستثمارات النوعية والإستراتيجية، خصوصًا في القطاعات التصديرية، والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، فضلًا عن جذب السياحة العالمية، والعمل على خفض تكاليف ممارسة الأعمال والحد من الإجراءات البيروقراطية، وتعظيم الاستفادة من الاتفاقيات الدولية.

ونختم بالقول.. إنَّ المراكز والمنتديات الفكرية ليست ترفاً وانما تمارس دورًا محوريًا وفاعلًا في دفع مسارات التنمية في الدول، من خلال تطوير الحوار بين المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني؛ إذ تُشيِّد هذه المراكز جسورًا للتواصل الفاعل، وتبني أرضية مناسبة تُتيح الفرصة لتسليط الضوء على التحديات التي تواجه مختلف القطاعات، من منظورٍ استراتيجيٍّ، عطفًا على كونها تُسهم في إدارة الحوارات؛ بما يُفضي إلى وضع سياسات تخدم الصالح العام، بعيدًا عن المصالح الضيقة. ولذلك نؤكد أن هذه المراكز أصبحت مطلبًا مُلحًّا لإيجاد مقاربات جديدة وتحقيق تحولات نوعية على مختلف الأصعدة.

** مُؤسِّس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات

الأكثر قراءة

z