العرب والتكنولوجيا (2 -3)

عبيدلي العبيدلي

بعبارة أخرى أكثر حداثة، فالمقصود بالعلاقة هنا، هو عندما تكون هي من مخرجات نظام بيئي (Ecosystem)، تمَّ رسمه وفق استراتيجية واضحة المعالم محددة الأهداف، يندرج في سلوك الفرد، وتتقاسم إنتاجه المؤسسات العربية المختلفة.

هذا النظام البيئي للتكنولوجيا كما يعرفه العديد من المراجع، هو عبارة عن شبكة مترابطة ومترابطة من مختلف الجهات الفاعلة التي تجتمع لإنشاء منتجات وخدمات مبتكرة في مجال التكنولوجيا. يشمل هؤلاء الفاعلون بشكل أساسي الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا شركات تقنية أكثر رسوخًا؛ مؤسسو شركة التكنولوجيا؛ المستثمرين والمجموعات الاستثمارية؛ والموجهين والمنظمات التي توفر دعم الأعمال.

وهناك بعض المؤسسات التي تذهب إلى ما هو أكثر تحديدا من ذلك، فتصف نموذج النظام البيئي للتكنولوجيا، بذلك النظام القادر على تمثيل الطبيعة الديناميكية للتطور التكنولوجي. حيث يتم تصميم النموذج لمساعدة الشركات على تحديد العلاقات المهمة بين تقنيات المضاعفات التي من المحتمل أن تؤثر على عملياتها وقراراتها الاستراتيجية. يوجز النموذج أيضًا الأدوار المحددة التي يمكن أن تلعبها التقنيات داخل النظام البيئي ومسارات التأثير التي تصف أنواع أدوار التفاعلات التكنولوجية داخل بعضها البعض.

وكما أشرنا سابقًا فقد عرفت العلاقة بين العرب والتكنولوجيا تراجعاً ملموسًا في الوقت الحاضر، لكن من الخطأ القاتل أن يقودنا ذلك القول إلى تعميم هذه الظروف المؤقتة في التاريخ العربي، إلى حالة مستمرة متوارثة. فقد عرف العرب نهوضاً معرفياً ولد علاقة متطورة بين العرب والتكنولوجيا، لعل الأقرب لنا تاريخيا هي تلك التي صاحبت ازدهار الممالك الإسلامية خلال حقبة الازدهار الإسلامية.  وغلب على المراجع التي تؤرخ للعلاقة بين العرب والتكنولوجيا، التي كانت تندرج حينها تحت فئة العلوم، بحصرها في المرحلة الوسطى من تأسيس الدولة العباسية، حيث استطاع العباسيون، كما يقول الباحث هاشم صالح، "ترسيخ نظام قوي استمر عدة قرون، بعد أن نقلوا العاصمة من دمشق إلى بغداد، أي من سوريا إلى العراق. وشهدت الحضارة العربية - الإسلامية عصرها الذهبي عندئذ بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي. فقد أدت حركة الترجمة عن الإغريق إلى ازدهار العلم والفلسفة. وأصبح علماء الإسلام هم منارات البشرية في ذلك الزمان".

ثم يمضي صالح مؤكداً على البعد العربي في ثقافة تلك الفترة قائلاً، "على أي حال، بين عامي 750 و1100، كان جميع العلماء إما عرباً، وإما فرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغاً في الأندلس وشمال أفريقيا. وكانوا إما يهوداً أو مسيحيين، أو في الأغلب مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة بينهم جميعاً، وهي أنهم كلهم كانوا يكتبون ويؤلفون ويحاضرون باللغة العربية".

لكن هذا التعميم يخطئ عندما يقفز على جذور تلك النهضة التي بزغت، ولو في نطاق دائرة ضيقة، في العصر الأموي. فقد كان هناك رجال علماء من أمثال خالد بين يزيد المتوفي في العام 704م، وهو حفيد معاوية بن أبي سفيان الذي يصفه (خالد) الكاتب كريم الهاني نقلاً عما يقوله عنه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"، أنه كان، " كان خطيبا شاعرا وفصيحا جامعا، جيد الرؤى، كثير الأدب وكان أول من ترجم الطب والنجوم والكيمياء.. وبلغ به حب العلم حد ترفعه عن الخلافة. حين سئل عن ذلك، قال إنه لا حاجة له بالخلافة ليرى من يريد التقرب منه استئثارا بمنفعة شخصية، أو من هو مجبر على طاعته والخضوع له".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العرب في تلك العصور الذهبية عند الحديث عن علاقتهم بالتكنولوجيا، أو العلوم كما كانت تعرف في تلك العصور، ميزوا بوضوح، وتحديد دقيق، كما تنقل عن تلك الحقبة العديد من المصادر، " بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم والعلوم التي استفادوها من غيرهم من الأمم الأخرى، ويطلقون على الأولى:(اسم العلوم النقلية أو الشرعية أو الإسلامية)؛ وعلى الثانية: (اسم العلوم العقلية أو الحكمية أو العلوم الدخيلة أو علوم العجم أو العلوم القديمة أو علوم الأوائل؛ وهي :الطب والفلسفة والرياضيات بفروعها المختلفة(الهندسة والهيئة والفلك والحساب والموسيقى) والكيمياء والصيدلة وعلم الطبيعة والجغرافيا ".

وانعكست تلك "النهضة العلمية التكنولوجية" العربية، إن جاز لنا القول على اللغة العربية ذاتها، التي يصفها الأديب جرجي زيدان، في كتابه " اللغة العربية كائن حي"، كما ينقل عنه الكاتب الصغير الغربي قائلا، "وهو ما أكسب العربية قدرة على توصيف الظواهر العلمية بكل دقة. لقد كان لحركة الترجمة هذه أثر كبير في إثراء اللغة الضاد بالمصطلحات الطبية والكيميائية والطبيعية والرياضية والفلكية وإدخال مفردات جديدة لا حصر لها نتيجة جهود المترجمين والعلماء الذين جعلوا التراث الفلسفي والعلمي اليوناني متاح للعقل العربي الإسلامي الذي حمل مشعل الفكر والعلم الإنساني لقرون طويلة".

 ولم تحصر شمس تلك الحضارة أشعتها في أراضي المشرق العربي الفسيحة، بل وسعت من دائرتها حتى بلغت الأندلس التي عرفت هي الأخرى نهضة علمية (تكنولوجية) مشرقة. ورغم تميزه وشهرته، لكن الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد الأندلسي، لم يكن سوى الأشهر بين أسماء قائمة طويلة من أمثال، ممن اشتهروا في مجال الهندسة من أمثال أبو القاسم عباس بن فرناس، الذي اهتم كما تنقل المراجع "بالرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والفلسفة، حتى لُقّب بحكيم الأندلس، واشتهر بمحاولته الطيران".

لكن تلك النهضة العربية – الإسلامية بدأت تتراجع، بعد أن دبت الخلافات الداخلية في جسم الدولة الإسلامية التي بدأت تتآكل من الداخل، بفضل الصراعات الداخلية التي أنهكت قياداتها، فانصرفوا نحو حروبهم الصغيرة الداخلية، وتكالبوا على المناصب السياسية، ونسوا، بل راحوا يحاربون بضراوة، كل مظاهر النهضة العلمية، وبالأحرى التكنولوجية التي شيدها أجدادهم.

وطغى صليل سيوف وأصوات مدافع الاقتتال الداخلي على إشعاعات منارات العلوم والتكنولوجيا، وكان محصلة ذلك طبيعية ومنطقية، حيث بدأت مراحل تهاوي التقدم التكنولوجي العربي، لصالح التقدم الذي عرفته أمم أخرى وفي مقدمتها الشعوب الأوروبية.

وتحول العرب من مصدر للعلوم والتكنولوجيا، إلى مستورد لها، بل طرأ ما هو أسوا، إذ بات العرب يجترون من مدارس التجهيل على حساب النهل من مراكز التحصيل.