بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
بعد فتنة أثارها داعية كويتي، يتناقش المسلمون في مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، حول خلافات في فروع العقيدة الإسلاميّة، ويتقاذفون الاتهامات بمصطلحات أغلبها سب وشتم وتحقير وتكفير، يبغون بكل هذا، حسب ما يدّعون، وجه الله تعالى ببيان العقيدة الصحيحة!
ويبدو أنّ "وجه الله تعالى" و"بيان العقيدة الصحيحة" هي أبعد ما يكون عن نقاش هؤلاء؛ فالله تعالى يخاطب نبيّه آمرًا: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125)، ويخاطب المؤمنين ناهيًا: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: 46)؛ بمعنى أن أي إنسان ليس لديه أسلوب حسن في النقاش، حتى لو كان عالمًا، فيحظر عليه شرعًا الدخول في نقاش يخص الدين، لأنه يضر دين الله ولا يخدمه، والله غني عنه وعن علمه.
هذا من ناحية الأسلوب، أما من ناحية المواضيع التي يناقشونها؛ فهي مواضيع تافهة لا صلة لها بالواقع المعاصر، قد أُتخمت نقاشًا عريضًا وجدالًا طويلًا من جميع الأطراف من الأولين والآخرين. وخسرت الأمة الإسلاميّة بسببها من الجهد والوقت والمال الكثير، وشُغِلَ المسلمون، خاصة العرب، بسببها عن الإسهام في عمارة الأرض، وخدمة البشريّة، وتطوير حياة البشر. فبينما يتسابق الشرق والغرب في تقنيات الاتصال وثورة الذكاء الاصطناعي واكتشاف أسرار الأرض والسماء، والبحر والفضاء، يخصص المسلمون وقتهم لمناقشة سؤال غبي: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟!
وقبل سنوات، وقع بين يدي كتاب قيّم، وهو كتاب "عقيدة المسلم" للعالِم المصري المُجدِّد الشيخ محمد الغزالي، ينتقد فيه الطريقة التقليدية لتعليم مسائل العقيدة الإسلاميّة، ويقدم رؤية متجددة بروح إصلاحية تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ينطلق الشيخ الغزالي في هذا الكتاب من المحاور الأساسية للإيمان، مبتدئًا بالحديث عن الإيمان بالله تعالى وما يثبت له من صفات الكمال، ثم ينتقل إلى قضية القضاء والقدر وعلاقتها بعمل الإنسان، ثم باب النبوة وما يخصها من وحي ومعجزة وعصمة، وصولًا إلى اليوم الآخر وما يتفرع عنه من بعث وحساب وجنة ونار.
وتتضح رؤية الغزالي في الكتاب منذ الصفحات الأولى؛ إذ يوجِّه نقدًا صريحًا للطريقة التي عُرضت بها العقيدة في بعض المتُون والشروح القديمة، التي تجعل التوحيد أشبه بمعادلات رياضية جافة تُحفظ وتُتلى دون روح. يقول الغزالي مُتحسرًا على حال دروس التوحيد التي عايشها: "فما كنت أجدُ فارقًا لدى السامعين بينها وبين شروح المعادلات الجبرية... فكلاهما ترويض للعقل مبتوت الصلة بالفؤاد. فكأن الطالب يذكر طائفة من الأدلة على وجود الله “واجب الوجود”، ولا يستشعر في قرارة نفسه عظمة الخالق المتعالي. ثم يصرخ مُنتقدًا: "أفهكذا تُدَرَّس العقيدة؟".
ولتصحيح ذلك، حرص الشيخ الغزالي في كتابه على إحياء الصلة بين علم العقيدة وبين نصوص الوحي وترجمتها إلى معانٍ حية تؤثر في القلب والسلوك؛ فهو لا يكاد يعرض لمسألة إيمانية إلّا ويستشهد بالقرآن الكريم أو بحديث نبوي يوضّحها، مُعتنيًا بأن "يجعل نصوص الكتاب والسنّة صوب عينيه" أثناء الشرح والتحليل. ويُصرِّح الغزالي أنه حاول قصارى جهده "أن يُرطِّب جفاف التفكير العقلي برشحات من المشاعر الحية"؛ أي أن يمزج بين الدليل العقلي والنور الإيماني المُستمَد من الوحي، فلا ينفصل البرهان عن تأثير الإيمان الحي في القلب.
وقد نتج عن هذا الأسلوب المُتميِّز معالجة كثير من القضايا المعقدة بلُغة يفهمها عامة القراء وخاصتهم دون إخلال بالمضمون العلمي؛ فالغزالي يرفض "التغريب" في علم الكلام، أي إبعاده عن نصوص الشرع وهموم الأمة، ويرفض أيضًا أن تكون العقيدة ميدانًا لفروض فلسفية مجردة أو حلبة صراع جدلي يستعرض فيه كل فريق عضلاته المنطقية، وينتصر لنفسه على حساب جوهر الدين. يقول ناقدًا أولئك الذين حوّلوا علم التوحيد إلى مناظرات عقيمة: "من الغفلة أن تحسب تكوين العقيدة يتم في مجلس مناظرة تُنحَّى فيها النصوص، ويُنشد فيها الغلب، ويُستغل منطق أرسطو لإيقاع الخصم أمام العامة".
وفي سياق نقده للتركة التاريخية لعِلم الكلام، يُشير الشيخ الغزالي إلى أن الانقسامات المذهبية في العقيدة لم تكن في جوهرها سوى نتاج أجواء سياسية واجتماعية مُلوَّثة بالعصبية، أكثر منها خلافات حقيقية في صلب الدين. ويؤكد أن الكثير من تلك الخلافات لو بقي في إطاره العلمي الضيق لما ضرَّ أحدًا؛ ولكن المشكلة كانت في خروجه إلى العوام واتخاذه أداة للتكفير والتفرقة. ونتيجة لذلك انقلب الحوار إلى خصومة دينية، وكل فريق أضفى على الآخر تهمة الكفر والإلحاد.
ويضرب الغزالي أمثلة لما يسميه "خلافات لا مُبرِّر لها" نشأت وتضخَّمت حتى استحالت معارك فكرية كبرى، أُهدرت فيها أعمار وأوقات، كان الأولى أن تُستثمَر في نصرة الإسلام وعمارة الأرض. من تلك الأمثلة التي يستعرضها مسألة رؤية الله، فقد وقع الخلاف قديمًا بين المعتزلة وأهل الحديث حول إمكان رؤية الله تعالى في الدار الآخرة؛ فأنكرها المعتزلة وعدّوا إثباتها تجسيمًا وتشبيهًا، بينما أثبتها جمهور أهل السنة وعدّوا إنكارها تعطيلًا للنصوص. واحتدم الجدال بين الفريقين وتراشقوا بالتهم حتى "ملأوا بها المحافل والأسواق"، على حد تعبير الغزالي، مع أن هذه المسألة نفسها كانت قد طُرحت بشكل محدود جدًا في عصر الصحابة من غير أن تترك أثرًا سلبيًا يذكر. يذكر الغزالي كيف اختلف الصحابيان الجليلان ابن عباس والسيدة عائشة رضي الله عنهما في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة الإسراء والمعراج؛ حيث كان ابن عباس وجمهور الصحابة يُجيزون وقوع الرؤية مُستدلين ببعض النصوص، بينما شددت أم المؤمنين عائشة النكير على ذلك وقالت إنه صلى الله عليه وسلم "لم يرَ ربَّه". وقد روت في ذلك حديثًا شهيرًا نفت فيه ثلاثة أمور بقوة وهي رؤية النبي ربه، وعلم أحدٍ بالغيب، وكتمان الرسول شيئًا من الوحي. والغزالي يعلّق بأن "التوفيق بين هذه الآراء المتقابلة سهل"، فلم يكن هذا الخلاف البسيط مُستوجبًا للخصومة أو التفسيق بين المؤمنين أبدًا.
مثال آخر هو النزاع الذي اشتعل بين بعض الفرق حول تكفير مُرتكِب الكبيرة وحكم توبته، والذي تجذَّر لاحقًا في مواقف الخوارج والمُرجِئة. لكنه في الحقيقة وُجد له نظير محدود بين الصحابة أنفسهم في مسألة قاتل النفس، فقد ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وابن مسعود -رضي الله عنهم- إلى أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبة له، واستدلوا بظاهر آية الوعيد في سورة النساء، بينما رأى آخرون من الصحابة أن باب التوبة مفتوح لكل مذنب ولو بلغ قتله العمد. هذا الخلاف أيضًا لم يؤدِّ إلى فرقة؛ إذ إن "اختلاف الأنظار طبيعة البشر" كما يقول الغزالي، ولم يقع بين الصحابة في ذلك لجاج ولا تشنُّج؛ بل ظل الأمر في نطاق الاجتهاد المقبول. بيد أن المشكلة تبدأ، يوضح الغزالي: "عندما يتدخل حُبّ الرياسة ومكر السياسة وعبث الحُكّام... عندئذ تتحوّل الحبّة إلى قُبّة".! ومع تقادم الزمن ظهرت فرق مبتدعة افتعلت هذه الخلافات وضخمتها وأخرجتها عن حجمها الطبيعي، وساعدتها سياسات خبيثة على اتساع الشُّقّة بين المسلمين.
إنَّ رسالة الغزالي الإصلاحية في هذا الكتاب هي الدعوة إلى جمع الكلمة ونبذ التعصب المذهبي، وإعادة الاعتبار للأصول الواضحة التي لا خلاف عليها بدلًا من الغرق في مستنقع الجدالات الموروثة، وأن عقيدة المسلم يجب أن تكون هي القاعدة الصلبة لوحدة الأمة، وليست معول هدم لوحدتها كما صار إليه الحال اليوم.