أهمية إصلاح الجهاز الإداري
مرتضى بن حسن بن علي
تطوير الأجهزة الإدارية الحكومية للدولة، وتحريرها من الضغوط والقيود التي تحد من فعاليتها وكفاءتها، أصبحت من المواضيع التي تشغل بال المُفكرين والاقتصاديين عبر العالم، بسبب التغييرات السريعة المُتلاحقة في العالم، مما يتوجب على الحكومات التنبؤ بالتغييرات القادمة من خلال اختيار (المدخلات) الضرورية للحصول على "المخرجات" المطلوبة، وتطوير إمكاناتها وطاقاتها الذاتية لتتواءم مع التغييرات الحاصلة.
كل ذلك يتطلب إعادة النظر بصورة جذرية في مفهوم الوظيفة العامة، وتغليب منطق الخدمة والعائد فيها على منطق السلطة. فالموظف يتلقى راتبه من مجموع المستفيدين منه، أي من كافة أفراد الشعب، بالتالي هو مدين لهم ولا يملك أية سلطة عليهم، وعليه تقديم أحسن وأسرع خدمة لهم، وما يُقدمه ليس مساعدة منه لهم، وإنما ذلك من صميم واجباته. فالمراجع يدفع له أجره من أجل أن يتلقى منه خدمة جيدة، كما ليس ضروريا على المراجع أن يذهب إلى مقر عمل الموظف، بل له الحق أن يتلقى الخدمة المطلوبة من مكان تواجده، كل ذلك يتطلب تعميق نظام اللامركزية وجعله من أسس الجهاز الإداري للدولة الحديثة، وتفويض الصلاحيات الكافية لكل مستوى إداري، وإعادة توزيع السلطات بين الأجهزة المركزية من ناحية، ووحدات الإدارات المحلية من ناحية أخرى، بحيث تتركز سلطة اتخاذ القرارات عند المستوى التنظيمي المناسب وليس بالضرورة عند مستوى القمة. وحيث إنَّ الموظف إنسان ومعرض لشتى أنواع الإغراءات، ومن أجل مصلحته، أصبح من الضروري تكريس مبدأ المحاسبة ثَوَاباً أو عقابًا وعلى كافة المستويات الوظيفية، وتقييمه حسب أدائه ونزاهته والنتائج المحققة، وعلى دوره في ابتكار أحسن الطرق لتقديم الخدمة وبطريقة فاعلة، والتحرر من القوالب الجامدة للأشكال والهياكل التنظيمية التي تؤدي الى تثبيت البيروقراطية المحِطمة للكفاءة والمُشلّة للتفكير والُمهّدرة للمال العام.
الأجهزة الإدارية للدولة لابد أن تدار أيضا وفقاً للأساليب الاقتصادية وقابلة للتغيير والتطوير حسب تغير الزمن، ولذلك أصبح ضرورياً تخفيض أعداد الموظفين عن طريق استعمال الأتمتة، وتطوير مهاراتهم وخبراتهم باستمرار، ليكونوا قادرين على إنجاز عدة أعمال في وقت واحد، وأن يتمكن المراجع من إنجاز معاملاته عن طريق الحاسوب أو الهاتف الذكي وتطبيقاته، وعندما يقل عدد الموظفين وترتفع كفاءتهم وإنتاجيتهم، ترتفع مرتباتهم.
أعداد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، مرتفعة جدا مقارنة مع المعدلات العالمية، ومن دون تقديم خدمات حقيقية وكفوءة، بل بالعكس تتصاعد الشكاوي من سوء الخدمات وبطئها. وما أصاب الأجهزة الحكومية المختلفة من ترهل لا يعود إلى نقص في الاعتمادات المالية، بل يعود إلى تدني المهارات المعرفية والإدارية وانعدام المساءلة. معدل عدد الموظفين في عُمان لكل ألف من السكان يعتبر من المعدلات العالية جدًا ويستنزف مبالغ كبيرة من الموازنة العامة. إضافة إلى ذلك، هناك أبنية ضخمة للوزارات وغيرها من الأجهزة، تم تصميمها وتشييدها ليس للحاجة إلى تلك الضخامة، وإنما بسبب عدم الاكتراث للمال العام، ولأسباب نفسية، وهي الرغبة بالشعور بمظاهر الأبهة، وهي تكلف مبالغ هائلة لصيانتها، ولنفس السبب تمَّ تعيين أعداد كبيرة من الموظفين وبطريقة عشوائية من دون الحاجة إليهم. بعض التعيينات كانت لأسباب نفسية أيضًا، من ضمنها الإحساس بالراحة نتيجة التحكم برقاب أكبر عدد من الموظفين. هناك أيضًا عدد من الوزارات، لا لزوم لها، ويمكن دمجها مع وزارات أخرى، كما هناك هيئات ولجان تشكلت عبر السنين للبحث عن حلول لمشاكل محددة، عجزت الوزارات المختلفة على كثرتها وعلى كثرة أعداد المستشارين ومديري العموم فيها عن إيجاد حلول لها. ووجود هذا الحشد الكبير من الوزارات والمجالس واللجان التي تضم عشرات الألوف من الموظفين وعجزها عن المساهمة الإيجابية في الإنتاج، تحمِّل ميزانية الدولة أعباءً تفوق إمكانياتها ولا تضيف أي عائد ذي قيمة للثروة الوطنية أو تقديم أية مساهمة في الإنتاج بقدر ما تعطله. وعملية إعادة هيكلة أجهزة الدولة لا تعني فقط التقليل من أعداد الموظفين إلى النصف كمرحلة أولى أو تطوير هياكلها أو إلغاء أو دمج وحدات واستحداث أخرى فقط، بل إنَّ العملية تمتد إلى عمق فلسفة الإدارة وتشمل ثقافة العمل من جذورها وتغيير ثقافة التعيين بالطريقة المتبعة أو الاستمرار في الوظيفة مدى الحياة. الأمن الوظيفي يؤدي إلى الترهل والفساد الوظيفي. تعيين الرجل المناسب للعمل المناسب أصبح ضروريا، فهناك مناصب مُنحت لأشخاص يجهلون أبجديات تلك الوظائف، وهناك مثلا، مديرون عامون للتخطيط أو الموارد البشرية، وهم يجهلون أبجديات التخطيط أو الموارد البشرية.
إنَّ إعادة البناء التنظيمي المناسب مع الأهداف المنشودة، يتطلب رسم سياسات شاملة لتطوير الموارد البشرية ومدى الاحتياجات الحقيقية للأجهزة المختلفة من الأفراد نوعاً وكماً، مع ضرورة استخدام معايير موضوعية في تحديد حجم العمالة، بعيدًا عن المجاملات الاجتماعية والعقد النفسية بشأن التوظيف، حيث يتراكم الأفراد في الأجهزة بشكل لا يتلاءم مع احتياجات العمل الفعلية، الأمر الذي يرفع التكلفة ويؤدي إلى انهيار كفاءة الأداء وتفشي البيروقراطية والفساد. الجهاز الإداري هو عصب الدولة الرئيسي وسياجها الأساسي، ولذلك فإنَّ عملية إصلاحه الشامل، يعد أمراً ملحاً.
ومن المهم أيضاً بناء جهاز إداري قادر على التجاوب والتكامل مع القطاعات الأخرى والانفتاح عليها، ومن ضمنها القطاع الخاص، والذي هو الآخر بحاجة إلى إعادة بنائه وتصحيح التشوهات المتراكمة عليه وتحويله إلى قطاع إنتاجي يساهم في تراكم الثروات المالية والاقتصادية والبشرية، ويلعب دوره في التنمية الشاملة.ذلك يتطلب أيضًا خصخصة عدد كبير من الأنشطة الحكومية والشركات المملوكة لها وإدارتها بالأسلوب التجاري.إعادة بناء القطاع العام من جديد أصبح أمرا ضروريا، آخذين بعين الاعتبار أن مفهوم الخدمة العامة أصبح في حالة تغير وإعادة صياغة مستمرة في ظل حتمية تخلي الحكومة عن بعض المسؤوليات الخدمية والاقتصادية لصالح القطاع الخاص، يديرها حسب القوانين الاقتصادية المتطورة والظواهر الاجتماعية المتغيرة. هناك مجموعة كبيرة من القضايا المُلحة تتطلب مزيدا من البحث والتفعيل ومضاعفة الاهتمام إذا ما أريد لعمليات إعادة الهيكلة الإدارية أن تحقق ثمارها المرجوة.
النقلة الكبيرة التي حدثت في إدارة الأجهزة الحكومية في الدول المتقدمة كانت بسبب الانتقال من المنهج التقليدي للإدارة إلى منهج يقتبس الكثير من أساليب ونظم العمل المُطبقة في القطاع الخاص، ومن بينها: الاهتمام بالعميل، والاهتمام بالتكلفة والإنتاجية، وتقييم العمل الحكومي وفقاً للنتائج النهائية، وتبني أنظمة متطورة للمحاسبة، والإدارة المالية والبشرية وغيرها، وترتكز على الأداء المؤسسي للأجهزة الحكومية.هذا المنظور لم يتغلغل بعد في عمليات الجهاز الإداري في عمان. الوضع الحالي لهذه الأجهزة ومن ضمنها الأجهزة الرقابية، إنها لا تراقب الأداء النهائي، ولا تتابع الفعالية والجودة والنتائج. دورها التطويري محدود جدًا، وجُلّ تركيزها على دورها التفتيشي. النقلة الحقيقية لإعادة الهيكلة تتطلب إعادة تشكيل الأدوار بحيث تكون رقابتها رقابة أداء، ورقابة نتائج والتركيز على الإنتاجية والفعالية وعلى الجدوى، وعلى درجة الالتزام بالضوابط واللوائح الموضوعة، لأن المسؤولية عن النتائج تتطلب التحرك بشكل أوسع وأكثر رحابة في مجال تطوير نظم عملها، ووضع النظم الداخلية الخاصة بها.
إنَّ الدور التطويري لهذه الأجهزة يحتاج إلى المزيد من التفعيل والتعميق، بحيث ينشط دورها في تقديم مقترحات تُعين الأجهزة التنفيذية على النهوض بأدائها وعلى تحسين نظم وآليات عملها بالشكل الذي يؤدي إلى تحسين الأداء النهائي.
وختاماً.. بدون إصلاح إداري جذري وشامل سيكون من الصعب- إن لم يكن مستحيلا- تنفيذ أية رؤية اقتصادية طموحة لعُمان، لتأخذ مكانتها اللائقة في هذا العالم المتغير والذي يقوم بإعادة تشكيل نفسه من جديد.