الموت الأخلاقي للغرب

 

د. صالح الفهدي

 

في كتابه (موت الغرب) يطرحُ الكاتبُ باتريك جيه بوكانن وهو سياسي ومفكر أمريكي شغل منصب مستشار لثلاثة رؤساء أمريكيين نوعين من الموت يواجههما الغربُ هما: الموت الأخلاقي؛ بسبب السُّقوط الأخلاقي، الذي ألغى كل القيم التربوية الأسرية والأخلاقية التقليدية، والموت الديموغرافي والبيولوجي؛ بسبب التناقص في عدد السكان بالموت الطبيعي!.

 ما يعنينا هنا هو الموت الأخلاقي للغرب، الذي يصنف نفسه في مرتبة (العالم الأول)، وهو بلا شك عالم متقدِّمٌ على صعيد العلم والتقانة والإنتاج والابتكار، إلاَّ أنَّه منحدرٌ قيمياً في الاتجاهِ الأخلاقي، وقد عرَّى وباءُ كورونا الكثير من أوراق التوت من جسدهِ شبه العاري أصلاً..!

وقبلَ أن يجادل أحدٌ ما منفعلاً: أن الغرب هو صاحبُ الفضلِ في التقدم العصري لوسائل عيش الإنسان بما أحرزهُ في العلم من تقدِّمٍ مبهرٍ، أقولُ له: ذلكَ أفهمه، وليس لديَّ اعتراضٌ عليه، وقد بيَّنتُ إعجابي به في مناسبات مختلفة، وكيف لي أن أتجاهله وأنا ممن قضى سنوات في الغرب لإكمال دراساته العُليا، إنَّما الحديثُ هنا عن (الموت الأخلاقي) الذي يتحدَّثُ عنه المفكرون الغربيون من أمثال (باتريك جيه بوكانن)، و(غوستاف لوبون)، و(ألفين توفلر)، قبل غيرهم. 

لا شك بأنَّ مصائب الموتُ الأخلاقي أشدُّ من الموت البيولوجي على العالم، فأزمةُ كورونا، والفيروس الذي تؤكِّد دراسات كثيرة أنَّه نتيجة فساد الإنسان الأخلاقي في العلم، واتجاههِ نحو توظيفه إلى ما يدمِّرُ البشرية، ويهددِّ مصير الإنسانية في كوكبِ الأرض هو أعظمُ وقعاً على العالم من موتٍ لعددٍ من البشرِ في دولة أوروبية بسبب الشيخوخة.

ولطالما شكَّل الإنزلاقُ في العلم نحو الدَّمار والهلاك بسبب موت الضمير الأخلاقي خطراً على العالم حذَّرَ منه أهلُ الجرأةِ والجسارةِ من أصحاب القلم، والفكر، والعلم، إلاَّ أن هذه الجهود الخبيثة استمرَّت في المختبرات المظلمةِ التي تتنافسُ فيما بينها لإجراءِ تجارب تجعلُ الإنسان في مستوى الجرذ الذي تُجرى عليه التجارب، فإذا تسرَّب –أو سُرِّبَ- أصاب العالم بالشلل، وكبَّده خسائر فادحةً في الأرواح البشرية، والاقتصادات..!

أمَّا في قيمة الإنسان فإنَّ المرءَ يتساءل: كيف وصل فيروس كورونا إلى الآلاف من دور العجزة في أوروبا مثل بريطانيا وإيطاليا فأبادَ منها الآلاف؟ هل كان ذلك مما خُطط له للقضاء على هذه الشريحة التي تُكلِّف الدول مبالغ باهظة لرعايتها، أم أن ذلك كان خارجاً عن الإرادة؟! شخصياً، وبناءً على ما ينقلهُ مفكرون غربيون حول هذا الأمر أرى أنه لا يتم كيفما اتفق وإنما بناءً على توجيهٍ ما، كمن يجري أمامَ وحش كاسرٍ بغية توجيهه إلى مسار مُعيِّنٍ، فإذا ما أدخل الموقع المُرسوم له خرج هو من الجانبِ الآخر، ينعي أرواح من فتكَ بهم ذلك الوحشُ المُرعب..!

رخصُ الإنسان الذي قدَّم عمره لبناءِ هذه المجتمعات فأصبحت على ما هي عليه من الحداثة والتقدم، وحينما وصل إلى مرحلة الشيخوخة تخلَّى عنه أبناؤه أولاً، ثم دولته، وحينما قرأت أن رئيس الوزراء الهولندي مارك روته لم يتمكن من زيارة والدته التي كانت تحتضر في إحدى دور رعاية العجزة بسبب القيود التي تفرضها السلطات على دور العجزة، وتوفيت عن عمر ناهز 96 عاماً في إحدى دور رعاية المسنين في مدينة لاهاي، أقول حينما قرأتُ الخبرَ حمدتُ الله على نعمة الإسلامِ الذي قرن عبادةَ الله برضا الوالدين، وجعل برَّهما والإحسان إليهما شرطاً من شروط الفوزِ بالجنة فتلك الأم التي أوصلت ابنها إلى أن يكون رئيساً لدولتها، كان مصيرها أن تموت وحيدة في دار عجزة دون أن تغمض عينيها على رؤيته أو في حضنه..!

إنَّ انهيار الأسرة في المجتمع الغربي، وانسلاخ الإنسان من الدين، هما سببان أساسيان للانحسار الأخلاقي في الغرب فهاتان المنظومتان التربوية والدينية هما اللتان تقفان حاجزاً صلباً لمنع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج الزواج، والعلاقات الشاذة، لكن ما يحدثُ هو على العكس من ذلك، فأنت ترى رؤساء الدول الغربية وهم ينضمُّون إلى مسيرات المثليين، ويمجِّدون الشذوذ الجنسي، ويواسون من ينفصل من أصحاب العلاقات الشاذة عن بعضهم البعض  بحجة نصرة حقوق الإنسان..!! انهارت منظومة الأسرة المُتماسكة فتشقق بنيان الغرب الأخلاقي، وانحدرَ إلى موتٍ أخلاقي مريع..!

صورةٌ أُخرى من صور (الموت الأخلاقي) هو ما يحدثُ من ردَّات فعل عنيفةٍ في أمريكا إثر مقتل الشاب الأسود جورج فلويد، وهو رقم في قائمةٍ طويلةٍ ذهب ضحية العنصرية المقيتة التي تترسَّب في أعماق الثقافة الأمريكية، في حين تدَّعي السياسة الأمريكية أنها حامية حمى الحقوق الإنسانية في العالم..!

أما الصورة القاتمة للموت الأخلاقي للغرب فتلك التي تقفُ وراءَ كل هذه الأحداث، بل وتسيِّرها وهي السيطرة على المال، وما يعنيه ذلك من السيطرة على الاقتصاديات وبدوره يعني السيطرة على مصائر البشر في العالم، خاصَّة إذا علمنا أن 1% من البشر يتحكمون في 99% منهم، فإننا سنرى أمامنا العوائل الأُسطورية لروتشفيلد، وروكفيلر، ووالتون وغيرهم، وهي التي تعبدُ المال إلهاً من دون الله، وفي سبيل ذلك تجعله وسيلة للسيطرة على مقدرات العالم، وتوجهه في الوجهة التي تريد من خلف الأستار، وتقف وراء الكثير من مصائبه، وقد تحدث عنها ديفيد آيك في حديثه لبرنامج "لندن ريل"، قائلاً إنه لم يتوقف عن التحذير منذ ثلاثة عقود على أنَّ العالم تحكمه مجموعة أشبه بالطائفة، لا تحصرها حدود، وتعمل في كل البلدان، لا سيما تلك التي توجه قرارات العالم. 

ركبَ إلى جانبي ذات مرة في الطائرة مواطنٌ أمريكي بسيط حيث أقلَّتنا من مطار هيثرو بلندن إلى الشرق الأوسط، ودار بيننا حوار عرفَ من خلاله باهتمامي بالقيم، فقال لي بأسلوبٍ لا يخلو من استعطافٍ: أرجو أن تأتي إلى أمريكا لتتحدث عن القيم فنحن أحوجُ الناس إلى الحديث عن القيم بعد أن انهارت قيمنا..!

ويبقى السؤال: ماذا يعني تقدم الإنسان علمياً، وفكرياً، ومعيشياً إن لم تكن الأخلاقُ هي أساسهُ وركيزته المحورية، وسوره الشاهق العظيم؟!

 

 

 

الأكثر قراءة