خفض الموازنة واستعادة ما لا يجب أن يصرف

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

إنَّ القرارات التي اتخذتها وزارة المالية منذ بداية هذا العام بخفض الإنفاق بما مجموعه 10% من الموازنة لمُواجهة الانخفاض الحاد في أسعار النفط، وكذلك الظروف الاقتصادية التي صاحبت انتشار جائحة كورونا، هي إجراءات تاريخية حتى وإن اتخذت في قلب أزمة لا أحد يعرف حدود تأثيراتها، وهي قرارات تتسم بالسرعة والجرأة من قبل مولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الذي استهل عهده بهذه التراكمات الاقتصادية التي تتطلب مُعالجات حكيمة تُحافظ على الأمان الاقتصادي للدولة ومواطنيها.

 

إنَّ وصف هذه الإجراءات المالية بالتاريخية لا يعد مُبالغة؛ لسببين؛ الأول لأنَّ هذه الإجراءات تأخرت كثيرا رغم مطالبات الاقتصاديين والمختصين بها منذ بداية انخفاض أسعار النفط في 2014م، حيث أكد الجميع على أهمية مُراجعة الإنفاق الحكومي خاصة في الجوانب غير المؤثرة، ورغم ذلك لم تتخذ هذه الإجراءات، ومضى الإنفاق في تصاعد مراكما حالة العجز والاقتراض وخدمة الاقتراض وهو نهج كان واضحًا أنَّه يقود إلى أفق مسدود ويقود إلى إرهاق موازنة الدولة، ونظامها المالي، وبدلاً من إعادة توجيه بوصلة الإنفاق ومراجعتها مضى كثير من المسؤولين يفسرون ما يجري تفسيرات غير دقيقة حيث تم عزوها إلى عمليات التوظيف الحكومي التي جرت في أعقاب 2011م، في عملية لإبعاد الأنظار عن المنطقة التي يجب العمل عليها في مسألة الترشيد والإنفاق، وهو ما ظهر واضحاً في البنود التي وجهت وزارة المالية الوحدات الحكومية والعسكرية للترشيد فيها خلال هذه الفترة.

إنَّ هذه القرارات التاريخية - حسب تصريحات الوزير المسؤول عن الشؤون المالية- قادت إلى استعادة ما يقرب من مليار و300 ريال عُماني خلال عام واحد، ولو استعرضنا الإجراءات المتخذة في توفير هذا المبلغ نجد أنها في جوانب غير حيوية وضرورية سيما وإذا قورنت بالعوائد المتوقعة فهي إما متعلقة بالشركات الحكومية التي يُطالب الجميع بتقييم صرفها المالي منذ سنين (تخفيض المصروفات التشغيلية والإدارية للشركات الحكومية بنسبة 10%، تخفيض الدعم المقرر لهذه الشركات بنسبة 50%، تخفيض مكافآت وأتعاب مجالس إدارة الهيئات والمؤسسات العامة والشركات والجهات الحكومية وللجان التابعة لها بنسبة 50%، وقف الترقيات والمكآفات لجميع موظفي الشركات الحكومية بغض النظر عن نتائج الشركة وأدائها)، أو أنها متعلقة بنفقات متعلقة بالجهات الحكومية والعسكرية والأمنية من المُمكن تجنبها (تخفيض البند المالي للمهمات الرسمية بنسبة لا تقل عن 50% لكافة الوحدات المدنية والعسكرية والأمنية والشركات الحكومية، تخفيض إيجارات الوحدات الحكومية بنسبة 10%، وقف جميع الدورات التدريبية الخارجية وحلقات العمل وحضور المؤتمرات والمعارض لكافة الوحدات المدنية والعسكرية والأمنية والشركات الحكومية، وقف كافة الحفلات والفعاليات غير الضرورية كالاحتفالات السنوية واحتفالات التدشين)، إنَّ المتأمل في تخفيض الإنفاق بهذه النسب القليلة التي لا تتعدى 10%، يدرك كم كانت هذه الجوانب غير الضرورية التي تذهب إلى المكافآت والسفر والمؤتمرات وحفلات التدشين تستقطع من موازنة الدولة، وبمقارنة ما يتم توفيره من (%10) في تلك الجوانب نجد أنها تشكل ( 37%) مما هو مخصص  لرواتب الموظفين بكامل القطاع الحكومي والمقدر بمبلغ (3.5) مليار ريال عُماني في الموازنة الحالية، وهو ما يدحض الادعاء المستمر بأن رواتب الموظفين هي القشة التي قصمت ظهر الموازنة طوال هذه السنوات، وهو إدعاء كثر ترديده على ألسنة كثير من المسؤولين أو بعض المختصين أو الكتاب.

لا شك أنَّ هذه القرارات المالية التاريخية، تُؤكد بما لايدع مجالاً للشك عدة جوانب لابد من العمل عليها، أولها أنَّ المعالجة الاقتصادية لمولانا السلطان هيثم بن طارق-حفظه الله- تقوم على مراجعة الهدر في الإنفاق الحكومي، وأن القرارات المتخذة هي تاريخية وسوف تقود شيئاً فشيئاً إلى تحسن كبير على مدى السنوات القادمة في الموازنة العامة للدولة، وثانياً أن تقليص الإنفاق في الجوانب غير الضرورية بنسب أعلى سيقود إلى تحسن أكبر، وسيقود إلى استعادة أكثر من مليار و300 ريال عماني، وثالثها أن المخاوف التي يبثها البعض من تأثيرات هذا الحد من الإنفاق لا أساس لها ولن تقود إلى إيقاف عجلة الأداء، كما أنها لم تقد إلى تحسين هذه العجلة أو تطويرها أو تغييرها في السابق حين كان الإنفاق بدون حدود.

 وما يجب أن نؤكد عليه اليوم، أنه إذا كان الرخاء قاد إلى رسم إنفاق مبالغ فيه أكثر مما يجب، وأكثر مما تحتاج المؤسسات فإنَّ الواقع يتطلب إعادة الأمور إلى نصابها، ووضع ميزان دقيق للإنفاق في المرحلة المقبلة، كما ينبغي مواجهة التبريرات والادعاءات التي تقود إلى تقديم قراءات غير دقيقة لتبرير تضخم الإنفاق واستنزاف موازنة الدولة، ولذا فتفعيل مبدأ المحاسبة وتقييم جوانب الإنفاق بدقة بات أمرا ضروريا، وهو نهج المرحلة القادمة الذي نجد مولانا السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- يُؤكد عليه ويمضي وفقه، ونرى أن ثماره خلال سنوات محدودة سوف تبهر الآخرين الذين مضوا يرسمون سيناريوهات تشاؤمية حول الواقع المالي.