حدَّثني أحدهم

جيهان رافع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كَتَب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة".

حديثنا اليوم عن الجهل والعقل، علينا أن نبنِي من التعقُّل والمسامحة جُدرانًا بوجه الجهل الذي يجلب دمارًا أكثر من الحروب، وينشر الخوف بقوة أكثر من وباء، ويجعل من التراجع الفكري وباءً يقضي على الأجيال.

كان ذلك قبل بداية الشهر الفضيل بشهر ونيف، كُنت أجلس أنا وصديقي في منزلي، أنا أنشدّ لمتابعة أخبار فيروس كورونا وانتشاره، وهو يُمسك بجهاز التحكم ويتنقل بين المحطات ليجد مقاطع فيديو تسخر من الوباء، وينتقد نقدًا لاذعًا كلَّ من لم يتبرع بمبالغ مالية لمكافحة كورونا، وجاء بالحديث على إحدى الشركات المهمة ونعتها بالمقصرة.

في البداية حاولت أن أعذره؛ فقلت لنفسي أنه يريد الخروج من غرائبية هذا الظرف بتوجيه اللوم والنقد وعدم الاكتراث،  فنحن لم نعِش آلامَ نكبة ما أو وباء يشغل تفكيرنا ونغير لأجله من عاداتنا، خاصة الاجتماعية منها، ومن محبتنا لهذا التواصل الذي نجد به أنفسنا ونعيش متعته دون أن نشعر. وبعد أيام قليلة من ظهور علامات انتشار الوباء بشكل واضح، لم يعد هناك مجال للاختباء خلف تصرف ربما يكون غبي، فاتصل بي وقال "أنا قادم إليك"، لم أستطع الرفض لأنه بكل بساطة ما زال يقتنع أننا الشعب المضياف الذي لم يعتد على عدم الترحيب بالضيف أو الصديق، حين أقبل كان ينظر إليَّ نظرة اشتياق الصديق المخلص مد يده ليصافحني ويقترب لمعانقتي، كما العادة، فوقفت بعيدًا عنه قليلًا، وقلت له: أنت لا تبالي للإجراءات، كما أنك لا تريد التقيد لإبعاد هذا الوباء عنك وعن عائلتك وعن محبيك، فأجابني وهو يضحك ساخرًا: "أنت يا صديقي تتمسَّك كثيرًا بكلام الناس وثرثرة التلفاز، نحن لا يصيبنا؛ أولًا: مناعتنا قوية، وثانيًا: لأنك لا تريد السلام عليَّ، قل هذا وكفى"، ثم عكف عن الضحك وانقلب إلى إنسان شعرت أنني لم أعرفه من قبل، وبدأ يشتم كورونا والأخبار والإجراءات، ومن ثمَّ تطرق بشكل مقصود للشركات التي لم تعلن تبرعها، فأجبته بقليل من التروي: أنت يا صديقي تمتلك مالًا كثيرًا، فلماذا لا تكف عن الانتقاد وتتوجه للتبرع؟ تعلم أن المشكلة فينا؟ نحن لا نرى أخطاءنا ولا نبحث عن مبرر لأحد، احترام ثقافة الخصوصية قليل جدًّا، فما أدرانا عما تقوم به تلك الشركات أو يقدمه رجال الأعمال، كل منهم يقدم ما استطاع والأجر والعقاب عند الله، فما نحن يا أخي بوجوده سبحانه تعالى؟

ثم حاولت جاهدًا أن أقنعه أن ذلك خطر عليه وعلى عائلته، لكنه لم يستمع وراح يهزأ مني. بعد أيام وإذ بي أتعرَّض للحجر المنزلي أنا وعائلتي إلى أن يتبيَّن عدم إصابتي وعدم نقل العدوى إلى عائلتي؛ لأنني وكل من احتك بصديقي تحت المراقبة وشبهة الإصابة، مكثت في المنزل تنفيذًا للتعليمات التي أصبحت أكثر صرامة وتشددًا لاحتواء انتشاره، ولكن ضمن تساؤلات لم تبرح رأسي: لماذا يدفع البعض ثمن أخطاء الآخرين وتهورهم وعدم اكتراثهم؟ ثم تضاءلت حدة غضبي عندما قرأت على مواقع التواصل الاجتماعي أن ابن صديقي مصاب أيضًا وهو في العناية المركزة، وابنته دخلت في حالة نفسية صعبة جرّاء خوفها على أخيها وأبيها، ورفض المجتمع لها؛ حيث أخبرتني ابنتي عمَّا كتبت أن معظم صديقاتها منذ اكتشاف المرض مع والدها وإغلاق المنطقة التي تسكن فيها، وهنّ لا يحادثنها حتى في المراسلات، غير كمية التنمُّر التي تعرضت لها من الذين فقدوا حاسة الشعور بالآخر، وانسحاب الكل من حياتها وكأنها ستصيبهم بالعدوى من خلف شاشة الموبايل.

من هنا، نسمع نداء الإنسانية على الملأ الذي يجتاز أرصفتها ويدوسها بنعال التجاهل والتكبر والتجبر والانتقاد السلبي، ويعكف عمّا يعزز لغتها الروحية الأزليّة في داخله.

وكما قال الإمام علي -كرّم الله وجهه: "اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية؛ فرواية العلم كثيرة ورعايته قليلة".