د. سيف بن ناصر المعمري
كورونا غيّر اتجاهات الأشياء وتقديراتها من حولنا؛ ودفع إلى التفكير في مسار الهجرة المألوف؛ موسم الهجرة إلى الشمال، هذا الموسم الذي خلده الروائي السوداني الطيب الصالح في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، هو موسم لا يقود اللاجئون الفارون من صراعات دول الجنون وحروبه وقلاقله التي لا تنتهي؛ بل يحرك أثمن ما تملكه مجتمعات الجنوب وهو العقول المفكرة التي تعزز من تفوق دول الشمال من خلال ما تقدم من مخترعات ونظريات وأفكار تطور بها حالة التقدم والتفوق الاقتصادي والاجتماعي وغيره.
هذه الفجوة العلمية تتسع وتتسع مشكلة هوة كبيرة تظهر مع كل أزمة يمر بها العالم، حيث تهاجر أنظار مجتمعات الجنوب إلى الشمال متطلعة إلى حل؛ قد يأتي في الواقع من خلال أحد أبنائها الذي لم يجد البيئة المناسبة التي تساعده على أن يستثمر إمكاناته العلمية، أو أنه لم يلق الاهتمام الذي يتناسب مع موهبته ونبوغه، أو أنه وجد رئيسا يميّز ضده، أو جماعة تقصيه لأسباب قد تكون دينية أو فكرية أو أيديولوجية، وفي النهاية تخسر مجتمعات الجنوب ما يدعم قوتها وبحثها وتكون عاجزة عن المشاركة في إيجاد حلول لها، لأن قوة العالم اليوم في العلم، وجيشه الذي يواجه به الأزمات يتكون من العلماء والباحثين.
إن التقارير الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وجامعة الدول العربية تؤكد وجود أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي يعملون في الدول المتقدمة من بينهم 450 ألفا من حملة الشهادات العليا، وأن (54%) من الطلبة العرب الذي يذهبون للدراسة في دول الشمال يرفضون العودة إلى بلدانهم الأصلية، ويشير البنك الدولي إلى أنّ الوطن العربي يسهم بما نسبته (31%) من مجموع الكفاءات والعقول التي تهاجر من البلدان النامية، وتستقطب ثلاث دول من دول الشمال هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا على ما نسبته (%75) من العقول العربية المبدعة في المجالات المختلفة، هذه بعض الأرقام التي تتحدث عن موسم التفريط في العقول المفكرة التي تحرك عجلة البحث ومن ثم عجلة الاقتصاد والمال والتفوق، مجردة دول الجنوب بما فيها الدول العربية من مصادر القوة الحقيقية، ولذا لم نسمع أي محاولة حتى لو كانت على سبيل إثبات الوجود لأي مركز بحثي أو جامعة عربية رغم أنها تتجاوز المئات إن لم يكن من أجل إيجاد لقاح فعلى الأقل لدراسة التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الجانحة على مجتمعاتنا، فأين البنية التحتية العلمية؟ وأين الجامعات؟ وأين مراكز الأبحاث؟ وأين أولويات البحث مقارنة بأولويات الإنفاق العسكري في منطقة لا تزال تراهن على التسلح وترفض المراهنة على العلم والمعرفة.
ما أكثر الأسئلة التي تطرح عقدا تلو الآخر، ويعيدها جيلا بعد الآخر، إن إشكالية الفجوة لا ترتبط فقط بفقدان هذه العقول المبدعة؛ ولكن تتعلق بتكفل دول الجنوب بدفع فاتورة إعداد وتعليم هذه الكفاءات حتى تكون ثمرة يانعة تقطفها دول الشمال، وتستفيد مما تحمله من خبرة ومعرفة، وتهيئ لها السبل التي تجعلها تنصرف إلى العلم والمعرفة والإنتاج بدلا من أن تشغل نفسها بما يمارس ضدها من تمييز وإقصاء، فهناك اعتماد علي دول الجنوب في تمويل تعليم هذه العقول أو في تمويل حركة هذه الجامعات، ولذا حذر اتحاد الجامعات في المملكة المتحدة من أزمة تمويل سوف تواجهها الجامعات البريطانية العام الجامعي المقبل نتيجة أزمة كورونا نتيجة عدم قدرتها على استقطاب طلبة أجانب في الفترة القادمة، وقدرت صحيفة ذا جارديان البريطانية في خبر لها نشر في 10 أبريل 2020م بأنّ الخسارة المالية قد تصل إلى 800 مليون جنيه إسترليني، إذ تقدر مساهمة الطلبة الدوليين في جامعات المملكة المتحدة بــ6.9 مليار جنيه سنوياً، في حين تشير تقديرات سابقة إلى أن الطبة الأجانب يرفدون الاقتصاد البريطاني بـ20 مليار جنيه إسترليني سنوياً.
إذن.. نحن أمام موسم متعدد الخسائر؛ هجرة للأدمغة؛ وهجرة للأموال التي تدرسهم، وهجرة للمكاسب التي يمكن أن تعود إلى البلدان الأم لو تمت إعادة النظر في واقع التعليم والبحث العلمي، والبيئات العلمية التي يمكن أن تغري هذه النخبة من أجل البقاء في مجتمعاتها، وهذه الأزمة وغيرها تطرح سؤالا ملحا هل: متى سيكون موسم الهجرة إلى الجنوب؟ وهو سؤال يحمل طموحا كبيرا، لاحتمالية تغيير محتمل قد يطال بعض المجتمعات بحيث تبدأ في توطين المعرفة من خلال توطين حامليها، وجذبهم للبقاء في أوطانهم والعمل بحرية، أو الاستفادة منهم حين يعودون إلى أوطانهم من هذه الجامعات بدلا من تركهم على قارعة الطرق والذهاب إلى الاستعانة بغيرهم القادمين من أنظمة تعليمية متواضعة، من أجل تجسير الفجوة العلمية بين مجتمعاتنا ومجتمعات الشمال، هي أسئلة للمستقبل الذي لا يمكن أن يتشكل خارج دائرة ثلاثية العلم والبحث والاختراع، وعلى أولئك الذين يظنون أنهم سوف يشترون المعرفة بدلا من أن يوطنوها أن يراجعوا أنفسهم، وعلى من يعتقد أن البحث ترف في مجتمعات لا تصنع أن ينظر إلى المجتمعات الناهضة التي كانت تمر بمثل ظروفنا.