حين تكون المؤامرات أكبر بكثير من مطالب الإصلاح

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

المُؤامرات عِبَارة عن خطط مُتكاملة الحلقات، ترمي لتحقيق هدفٍ خفيٍّ بوسائل مُتاحة، ولأسباب تبدو منطقية ووجيهة.. وأكبر مثال مُعَاصِر للمؤامرات على وطننا العربي: جائحة "الربيع العبري"، والتي ركبتْ موجة المطالب المعيشية البريئة، ورفعت شعارات الحريات والحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية...إلخ؛ لدغدغة عواطف ومشاعر الشعوب. وفي النهاية، تحققت المؤامرة بفصولها المرسومة فقط، وسقطت كل هذه الشعارات والمطالب، واختفت من أرض الواقع والواجهة.

جائحة "الربيع العبري" كانتْ ترمي لإسقاط نظام الحكم والدولة الوطنية في كلٍّ من سوريا وليبيا وتونس ومصر، وبدأتْ بتونس، ثم مصر؛ تهيئةً لاجتياح ليبيا وإسقاط نظام معمر القذافي والدولة الوطنية في ليبيا، واستبدالها بميليشيات ترتهن للخارج، وتنفذ أجندات تعيد هيكلة الدولة وثوابتها وقيمها، وتعبث بوعي المجتمع ومكوناته إلى درجة الإجهاد المُنظم، وصولًا إلى قبوله قسرًا بأي حل من قبل أطياف الشعب الليبي يُحقق لهم الماء والغذاء والدواء والهواء فقط لا غير.. أي المعيشة البهيمية.

وكان روَّاد المؤامرة ومُخططوها يعلمون جيدًا أنه لا يُمكن تمرير مُؤامرتهم على ليبيا، في ظل حكم حسني مبارك لمصر، وزين العابدين بن علي لتونس؛ فالاثنان رفضا مرارًا تمرير مؤامرات سابقة على ليبيا القذافي لأسباب كثيرة؛ على رأسها: عدم العبث بالجغرافيا، واعتبار ليبيا جزءًا مهمًّا من نسيج أمنهم الوطني والاجتماعي؛ حيث تداخُل الأنساب والقبائل والعائلات، والعمالة كبيرة جدًّا ووازنة، ولا جمة لأي عمل طائش أو تصرُّف غير محسوب العواقب؛ لهذا لم يُخفِ الزعيم الليبي معمر القذافي خوفَه على بلاده من الاجتياح في زمن لا يكون فيه حسني مبارك ولا زين العابدين على رأس الحكم في بلديهما، وكان هذا الخطاب الاستقرائي الاستشرافي عام 1994م!! (وهو موثق على الشبكة العنكبوتية).

لهذا؛ كان الدفع بالحالة التونسية كبيرًا نحو الإطاحة بالرئيس الزين بغض النظر عن البديل، رغم كل الوعود والإصلاحات والتنازلات التي قدمها للشعب، إلا أنَّ السيناريو كان يتجاوز جميع تلك الوعود والإصلاحات والتنازلات إلى سقف عزل الرئيس وإسقاط النظام والسياسات والدولة الوطنية التونسية؛ تهيئة للعبور إلى الجبهة الليبية لاحقًا، والتي شهدتْ جائحة "الربيع العبري" في مواجهة أسطورية بين الجيش العربي الليبي بأسلحته الخفيفة والمتوسطة، وحلف الناتو وبعض الأعراب الحالمين بالمجد على بطونهم!! ملحمة سيُنصفها التاريخ فقط، دامت 8 أشهر بين جيش شبه أعزل بعد تحييد جميع أسلحته الإستراتيجية وإخراجها من الخدمة، وحلف يتشكل من 48 دولة.

لحقت مصر بركب جائحة الربيع بعد تونس بنفس الذرائع والمطالب الظاهرية البراقة والمعروفة من قبل الجميع، وبقي الباطن من الخطة مطمُورًا في عقول المتآمرين الحقيقيين، ويهدف الجزء الحقيقي إلى تحييد نظام مبارك -الحليف القوي لأمريكا- من مُخطط الإجهاز على ليبيا القذافي ونظامه، والذي كان يعد لجائحة من العيار الثقيل للغرب، والمتمثل في إطلاق الدينار الذهبي الليبي عام 2015م، ليصبح العملة الرسمية لبلدان الاتحاد الإفريقي؛ بدلًا عن الدولار واليورو.

المؤسَّسة العسكرية بمصر باغتها الحراك، وعطل مُخططها في الإجهاز على الدولة الموازية التي أقامها جمال مبارك بمُباركة وصمت من والده؛ الأمر الذي تسبَّب في احتقان الأوضاع السياسية والمعيشية بمصر بصورة غير مسبوقة، وجعل المؤسسة العسكرية تفكر في خطة إطاحة هادئة بالرئيس مبارك ودولة نجله جمال في 23 يوليو 2011م؛ لرمزية التاريخ في عقيدة الجيش المصري؛ فكان لزامًا عليها اللجوء إلى الخطة (ب) وهي إدارة الأزمة والحفاظ على هياكل وعقيدة المؤسسة العسكرية من أي اختراق أو تغيير قادم، وتحت أي ذريعة أو سبب.

وكالعادة، حقَّق الجيش مُخططه في عزل مبارك ودولة جمال ورموزها، لكنه أُكرِه على قبول حكم الإخوان -العدو اللدود للجيش ولمصر وللأمة العربية- حيث تمكَّن الجيش من منع أي اختراق من قبل الإخوان له أو لأي من منظومته، ثم عمل بصمت ودهاء على تحريك مفاصل الدولة العميقة ضدهم لتهيئة الرأي العام ليصل إلى مرحلة الاستنجاد بالجيش صمام أمان مصر في جميع مراحلها التاريخية، هذا الجيش الذي لا يزال تحت المجهر الصهيوأمريكي وعرب التطبيع، لتفتيت عقيدته وتماسكه وتحييده عن الحياة السياسية بمصر؛ ليسهل تمرير ثقافة كامب ديفيد وصفقة القرن على رؤوس الأشهاد!

جائحة الربيع اجتاحت ليبيا الغنية، والتي يتمتَّع شعبها بأعلى معدلات الرفاهية والمعيشة والدعم من قبل الدولة وينعم أكثر من 84% من شعبها بتملك مساكنهم الخاصة، ويعمل في ليبيا زمن الجائحة أكثر من 9 ملايين وافد من جميع الأقطار العربية المجاورة وإفريقيا وآسيا وعدد سكان يصل إلى 6 ملايين ليبي؛ وبالتالي تسقط ذريعة المطالب المعيشية، ومنذ العام 2005م وبعد تسوية ملفات لوكربي ومصنع الرابطة والممرضات البلغاريات، تحولت ليبيا إلى ورشة للتنمية والإعمار بواسطة مشروع "ليبيا الغد"، الذي أسند للدكتور سيف الإسلام القذافي، ورصد لتنفيذه مئات المليارات من الدولارات، وتخللته مصالحات ومراجعات مع جميع أطياف الليبيين ممن يسمون بالمعارضة، وحتى من يشكلون خطرًا على الدولة الليبية. وهنا، تسقط ذريعة ومبرر الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان وأخواتها في ليبيا.

في العام 2010م، وقبيل الجائحة بأشهر قليلة، كانت ليبيا محطَّ أنظار العالم، ومحجًّا لساسته؛ فقد كان ذلك العام عامًا ليبيًّا بامتياز، بحكم رئاستها للجمعية العامة للأمم المتحدة والقمة العربية العادية والطارئة في سِرت، ورئاستها لمنظمة الاتحاد الإفريقي ومنظمة دول الساحل والصحراء، والحوار الإفريقي الأوروبي، ومنحت الأمم المتحدة الزعيم معمر القذافي جائزة حقوق الإنسان في "ليبيا"، وكان مقررًا تسليمها للزعيم من قبل الأمين العام بان كي مون في شهر مارس 2011م، بينما كان توقيت الجائحة في 17 فبراير!

كانتْ السَّاحة السُّورية مَسرحًا لأحداث انطلقتْ من دِرعَا عام الجائحة ولا تزال مُشتعلة؛ حيث برهن عمر الجائحة -والتي راهن مخططوها على انهيار النظام السوري خلال ثلاثة أشهر، معتمدًا على روايات شهريار وشهرزاد- أنَّ المخطط يتعدى المطالب المعيشية بسنوات ضوئية، وأنه السعي الحثيث لتحقيق حلم تاريخي متجدد لإسقاط النظام والسياسات والدولة الوطنية معًا، وإقامة أحلام بن جوريون وجولدا مائير وكيسنجر ومطالب كولن باول بالقوة القهرية!

تجربة الغرب في الوطن العربي ومع الوطن العربي تجربة مليئة بالفشل والهزائم المباغتة؛ فقيام ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952م في ظل انتداب وهيمنة بريطانية شاملة على مصر، وفي ظل وجود 70 ألف جندي بريطاني على أرضها وخروجها المُذل عام 1954م في اتفاقية الجلاء، ثم انطلاق ثورة الفاتح في ليبيا بقيادة الزعيم معمر القذافي عام 1969م في ظل وجود 7 قواعد بريطانية وأمريكية على أرض ليبيا، وكتناسل طبيعي لثورة 23 يوليو، جعلت الغرب يشعر بالهيمنة القلقة والهشة على الأقطار العربية مهما كان النفوذ والتواجد وحجم التأثير، ومن هنا كان التفكير عبر جائحة الربيع بضرورة إسقاط الدولة الوطنية وسياساتها، وزرع الفوضى والميليشيات كأوراق متناثرة ومُبعثرة يَسهُل تحريكها والسيطرة عليها وتوجيهها، في ظل غياب الدولة المركزية، وتشظي المؤسسات الحرجة العميقة؛ لهذا يبقى الجيش المصري من ضمن المؤسسات العميقة المستهدفة من قبل الغرب والصهاينة، وإن لم تبقَ له سوى عقيدته القتالية ومفهومه للأمن القومي العربي؛ فقد ثبت للغرب أن هذه المؤسسة لم تطوِّعها كامب ديفيد كما كان الرِّهان، ولم تفقد حُضورها في قلوب المصريين، وتتمتع بحاضن شعبي مُرعب في مصر، وأنَّ الجوائح والمؤامرات لا تُؤثر فيها، لمناعتها وقدرتها العالية على الامتصاص والمناورة، واختيار مسرح المعركة وأدواتها المناسبة باحترافية عالية.

هذا الموجز البسيط والمختصر يُجيب عن من لا يزالون يحملون فيروس الربيع، ويعتقدون أن أمريكا معنية بتحقيق الرفاهية والعدالة والديمقراطية في منطقة تمثل لها مسرح المعركة وجهدها للتدمير والتفتيت والإفراغ من كل مظاهر الوحدة والقوة والتنمية والتطور والاستقلالية. الغرب لا يزال يبحث عن مفاتيح هزيمة نكراء للأمة تخرجها من معادلات الصراع والتاريخ معًا، لكنه ما زال عاجزًا عن اكتشاف تلك المفاتيح والأسرار؛ لأنَّ الصراع صراع إرادات وصراع مدنيات طارئة وحضارة.

وبالشكر تدوم النعم...،

----------------

قبل اللقاء: لا شكَّ أن الغرب يَسعى لـ"الإصلاح" والتغيير في الأقطار العربية، ولكن على طريقته وبما يُحقق مصالحه، ولا شك كذلك أنَّ التغيير و"الإصلاح" على الطريقة الغربية لا يخدم مصالح الأمة على الإطلاق.