الحياد العلماني

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

نحن اليوم في عالم مُتشابك معرفيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا، وعندنا إسراف في استثمار الدين في سوق السياسة، أنتج فكراً عدميًّا شقيت به مجتمعاتنا: كراهية فرقتنا، وإرهاباً ضارياً ضرب أوطاننا وأوطان الآخرين، وآن لنا أن نعيد النظر فيما نظنه (ثوابتنا)! فهل حقاً "العلمانية" معادية للإسلام، بالمطلق؟

بداية.. لا أقول بالعلمانية كما تطبقها أوروبا، لأننا أولاً وآخراً، مجتمعات إسلامية، وديننا العظيم له في الشأن العام كلمات هادية، لكنها لا تقيد حركة المجتمع، ولا تعيق التطور والتقدم، ولا تمنع الإفادة من تجارب المتقدمين في مجالات تدبير الشأن العام، ومن هنا، أرى الإفادة من العناصر الإيجابية في العلمانية، تلك التي حققت للدول التي تبنتها ما تنعم به من ازدهار اقتصادي، وتفوق علمي ومعرفي وتقني وعسكري، وملاذاً آمناً، وجودة حياة، ومعيشة كريمة، تلك العناصر التي جعلتْ ملايين المسلمين تحلم بالهجرة إليها، فلو كانت العلمانية مُعادية للإسلام، لما فضَّلت تلك الملايين من المهاجرين المسلمين الدول العلمانية على أوطانها الإسلامية؛ حيث يستعيدون كرامتهم الإنسانية، ويمارسون طقوس دينهم بحرية!

 

ماهي العناصر الإيجابية في العلمانية ؟

أولاً: ضمان حرية المُعتقد الديني وغير الديني، لجميع المواطنين، فرديًّا أو جماعيًّا: والحق في تغيير المعتقد بدون أي تبعة قانونية، وحرية الجماعات في ممارسة طقوسها، وحقها في إقامة معابدها، ولا يحق للأغلبية الدينية أو المذهبية فرض قناعاتها الدينية على الآخرين؛ وإذ لا تتبنَّى العلمانية موقفاً معادياً للأديان، إلا أنها لا تتسامح مع جماعة أيديولوجية أو مؤسسة دينية تحاول الاستيلاء على السلطة لتفرض طروحاتها.

ثانياً: المساواة الكاملة لأصحاب الديانات المختلفة أمام القانون: بصرف النظر عن كونهم أكثرية أو أقلية؛ فهم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، ولا قيمة تمييزية لعقيدة دينية أو غير دينية أمام الدستور.

ثالثاً: حيادية الدولة (الديني والمذهبي)؛ سواء على الصعيد الديني، بأن لا تتبنى الدولة ديناً أو مذهبًا فقهيًّا معيناً، أو على مستوى التشريع والقرارات والقضاء، بأن لا تراعي الدولة تعاليم دين معين، إلا ما تقره السلطة التشريعية، أو على مستوى التنفيذ، بأن يلتزم موظفو الدولة تطبيق التشريعات الرسمية لا قناعاتهم الدينية، ولا يحق للمؤسسات الدينية التدخل في قرارات السلطات الثلاث.

ولا يعني (الحياد الديني) أن الدولة العلمانية، لا تكترث بالقيم والمبادئ الدينية والأخلاقية والإنسانية، لكنها تختلف عن الدولة الدينية، في أسلوب اختيار هذه القيم والمبادئ؛ إذ تختار الدولة العلمانية هذه القيم والمبادئ وفق الأسلوب الديمقراطي، عبر مُمثلي الشعب المنتخبين بحرية، كما تتم باستمرار مراجعتها طبقاً للوعي المجتمعي، بخلاف الدولة الدينية التي تأخذ بقيم ومبادئ دينية، يضعها فقهاء موالون لسلطتها، ثم تفرضها على المجتمع ككل، وبطبيعة الحال، فإن هذه القيم المختارة، تتقاطع، غالباً، وواقعاً، مع تلك التي تتبناها أديان لها انتشار مجتمعي واسع.

ويجب أن لا يفهم من "الحياد الديني" معاداة الأديان، أو اللادينية، وإنما "عدم الانتماء لدين معين"؛ لأنَّ مرجعية الحياد الديني تفرض على الدولة "تمثيل القواسم المشتركة بين المواطنين"، بصرف النظر عن تمايزاتهم الدينية والفكرية.

رابعاً: الفصل بين الشأنين العام والخاص.. ضماناً لحرية الاعتقاد، تفصل العلمانية المجال الخاص (لفرد أو جماعة) عن المجال العام (لجميع المواطنين) الدولة تمثل الجميع، وترعى شأنهم العام (الدنيوي) دون الشأن الخاص (الديني أو الفكري) فتفصل بين انتماء الفرد كمواطن للدولة (الانتماء الوطني) وانتمائه إلى دين أو معتقد (الانتماء الديني أو الفكري) وبهذا الفصل، يتم التمييز بين ما هو (مقدس) وما هو (دنيوي).

المحصلة: الحياد العلماني للدين ليس انتقاصاً منه، ولا عدم احترام وتبجيل لرجاله، بل صيانة لقيمه ومبادئه، وحماية له من الاستغلال السياسي.. ولمزيد من الاطلاع، أدعو القرَّاء إلى كتاب مرجعي نفيس "نحو الدولة المدنية في العالم العربي" للدكتور سليم إبراهيم، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية 2012، وللحديث بقية.

 

* عميد كلية الشريعة بجامعة قطر سابقًا

الأكثر قراءة