د. مجدي العفيفي
نبضة «1»
- الزمان: في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
- المكان: في مسقط في نفس أرض عمان الطيبة التي لا تقبل أن تنبت إلا طيبا.
- الحدث: كان الفصل الثاني من قصة هذا القلب، إذ أجرى الطبيب لي عملية ثانية في القلب بعد أن تمرد شريانان تمردا غير محسوس.. أكلما هدأ شريان من شرايين القلب ثار شريان آخر وتمرد..! فما لهذا القلب لا يريد أن يصل إلى الى المحطة الأخيرة سليما..؟ أم أنه يرى أن ثمة محطات لا تزال على الطريق قبل محطة الوصول؟.
العملية تمت هذه المرة مصادفة أثناء زيارتي إلى مسقط العام الماضي لتوقيع كتابي «الأبعاد المتجاورة في فكر السلطان قابوس» مع أن لا شئ يتم مصادفة.. إنما ذلك تقدير العزيز العليم.. مسقط التي عشت فيها أكثر من ربع القرن بصورة متواصلة ( 1984 / 2010 ) جئت إليها في ربيع العمر وغادرتها في خريف العمر، وما بين الربيع وعنفوان نجمه.. والخريف واصفرار قرص شمسه، كانت التحولات والانعطافات والتوهج والضياء، وكانت أكبر نوبة مرض هي مجرد نزلة برد في عز الحر، شوية صداع... وغير ذلك من أمور الدلع الصحي!!.
نبضة «2»
والذي حدث أن كنت اتناول طعام الغداء مع صديق جليل وعزيز كبير، تجاذبنا الحوار فأشار أن أذهب مثله لعمل فحوصات طمأنينة، ليس إلا، وذهبت، ففوجئت أن شريانين بداخلي عاطلان عن العمل، الأول اغلق تماما، والثاني على وشك.. يا إلهي المفروض أن أعود الى القاهرة بعد يومين، وعلى الفور تم تركيب دعامتين، وأنقذني الله من كارثة، على يدي جراح القلب د، محمد الريامي، الذي تعامل مع الشرايين بمهارة وتقنية عالمية عالية، وجدارة طبيب ابن طبيب، أخذ الإثنان العلم على أعلامه.
هدأ القلب قليلا في المركز الوطني للقلب بالمستشفى السلطاني، وهو مستشفى عملاق، شهدت وضع حجر الأساس له في مطالع ثمانينيات القرن الماضي، ولم أدخله مرة واحدة مريضا، ومن المفارقة أني دخلته الآن ضيفا تعرض لأزمة قلب.. سبحان الله.. فكان نعم العناية ونعم الرعاية والإستضافة والضيافة فحق لعمان أن تشهد لها دوائر الاختصاص في العالم، ولعلها مصادفة أن استمع، بعد الإفاقة، إلى نشرة الأخبار أن «وكالة بلومبرج الأمريكية» نشرت تقريرا عن البلاد الأكثر سعادة ورفاهية وراحة نفسية للعيش بها، فكانت السلطنة من أفضل عشر دول يتمتع فيها الإنسان براحة نفسية، حيث حلت في المرتبة الثانية بعد كندا، ولم تسبق السلطنة أي من دول الشرق الأوسط، نعم وأنا على عمان ذلكم من الشاهدين..!.
نبضة «3»
أجمع الأطباء في مسقط والقاهرة.. على ضرورة الهدوء الداخلي والابتعاد عن المؤثرات الخارجية.. ففي ذلك خير دواء، وإلا سيتمرد القلب مجددا ويظل متمردا حتى حين لا يعلمه إلا الله تعالى ! نفس «الروشتة» منهم.. ونفس «المسكنة» مني.. والانحناء قليلا أمام عاصفة الشرايين، والسعي لدىَّ الى التمكن..وانظر حولي ... وأجد الروشتة إياها تبهت سطورها أمام متابعتي الشحيحة لما أراه «غصب عني»..
إنه الفضول الصحفي، وحدس استشعار الكاتب.. وتطوف بخاطري سطوري التي نزفتها قبل عام مخاطبا طبيب القلب.. ولا يزال القلب ينبض.. وأنَّى له ألا ينبض وكل شيء حواليه يحرك جبال الهموم وينطق المسكوت عنه..!. ولا يزال يركض في الأودية الطبيعية والإلكترونية ولا يرقد إلا ليثير الأسئلة المسكوت عنها وهو في كهف الذات ثاويا في أهل مدينة الفكر.. ولا يزال يصهل ويحمحم.. حتى كأنه مثل حصان امريء القيس: «مكر مفر مقبل مدبر معا ...» ولا يزال يصفق بأجنحة التحدي والتصدي والبقاء، ليس كالمصفقين إياهم الذين ينتظرون حتى يتم الحدث ثم يصفقون مع المصفقين أو يرفضون مع الرافضين.. لذا فهو يتألم أملا.. ويتكلم صمتا.. والصمت أبلغ أحيانا.. ويتعلم فيترك علامته بصمة عقلية.. ويتأقلم... «؟!» وهذا هو المستحيل ! ولا يزال يدق فلا يفاجأ بطارق.. وما أدراك ما طوارق أبواب القلب وطواريء لياليه.. ويدِق عن لطفي خفي في غرفه الأربع .. ولا يزال يخفق بالعنفوان.. أواه وحليم .. يرق كلما لامست أطرافه أطياف الجمال.. وكلما مست نياطه روح يناجي «الماوراء».. وكلما جن عليه الليلُ شمساوضحاها.. ف «يتحلى» كلما تجلت له أنوارُ الجلالْ.. و«يتخلى» كلما «آنس نارا» وقيل له «امكثوا» ويتجلى عليه طائفٌ يحمل ذبذبات الشوق.. من قلب تغشاه السناء والثناء والتدلل والدلال.
نبضة «4»
بينما كان الطبيب يساند الشرايين لتستعيد عافيتها، كنت أنا في عالم آخر.. عالم ماوراء القلب ذي الوظيفة العضوية إلى القلب ذي الآيات المائة والعشرين التي وردت في سياقاتها ورودا محكما.. فياضا.. خلاقا.. لا يملك المخلوق منا إلا أن يتضرع إلى الخالق العظيم الذي أتقن كل شيء خلقه، بديع السموات والأرض، خلق كل شيء فقدره تقديرا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
كنت في مشهد قلبي ذي ثلاث شعب: الطبيب يسيطر على القلب الذي هو عضلة تضخ الدم بأجهزته وأدواته.. الفكر يهيمن على القلب الذي هو لطيفة ربانية روحانية حيث الإدراك والمعرفة والعلم والإيمان والعاطفة والوجدان والإرادة.. الإدراك يغلف القلب فيجعل ذبذباته تحار بين مسقط والقاهرة، أين المحطة التي يتوقف فيها القلب}... وما تدري نفس بأي أرض تموت{ وفي ظل هذا المشهد ذي الثلاث شعب كان القلب كله يحاول الإحاطة بمنظومة الآيات التي بلغت72 آية ورد فيها كلمة «القلب» في سياقات شتى ضمن 107 آيات ذكرت لفظة قلب ومشتقاتها ومتعلقاتها«المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» كيف استطاع الذين أوتوا العلم أن يشقوا الجداول التي جرت فيها ماء رؤاهم لهذا التجلي القلبي في أجواء القرآن الكريم.. وإلى أي مدى استطاع كاتب هذه السطور صاحب القلب الخاضع للتجلي الطبي أن يلملم أشواقه وعذاباته العذبة لاستقطار بعض ما يفيض به الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويعطي قارئه على قدر ثقافته ومقدرة قلبه على عملية التلقي لأحسن ما أنزل الله تعالى.
نبضة «5»
كنت أرى آيات القلب ومضات معلقة على جدران الفضاء حولي في غرفة العمليات، تتجلى من بثها غزير الإشعاع أنواع شتى للقلوب في القرآن الكريم بكل مفارقات معانيها، وتعارضات صفاتها، وتأرجحها بين القوة والضعف، والقلق والسكينة، واليقين واليقين المراوغ، والخوف والطمأنيينة، والدهاء والتصدي..
تشكيلات مثيرة للجدل: القلب السليم، القلوب المؤلفة، القلب الخاشع، القلب الطاهر، القلب الرؤوف والرحيم، القلب المؤمن، القلب الخائف، القلب المتقي، القلوب الصاغية، القلب العاقل، القلب المطمئن، القلوب المربوط عليها، القلب المنيب، القلب المريض، القلب القاسي، القلب الزائغ، القلب المختوم، القلب المطبوع، القلوب المتشابه بأفعالها على مر السنين، القلب المصروف عن الحق، القلب المتكبر، القلوب المتصدية، القلوب المقفلة، القلب المشمئز، القلب المنافق، القلوب اللاهية، القلب المغمور، القلب المنكر، القلوب المغتاظة، القلوب المرتابة..
نبضة «6»
يتواصل البحث في فضاءات القرآن الحكيم، ويبحث القلب - وهو يتعافى - عن التصنيفات الوصفية، ويحدق في ترتيل الآيات في تشكيلات ثلاث، أولها: الصفات الإدراكية المعرفية: الهداية، الفقه، العقل، العمى، التدبُّر، الإنكار، العلم، الظن، وثانيها ..الصفات الإرادية المعنوية والعملية: الغلظة، السلامة، الإنابة، الإثم، الاطمئنان، المرض والطمع، التقوى: التقلُّب، الاشمئزاز، السكينة، الرأفة، الرحمة، الوَجْفُ، الصَغْو، القسوة، الكسب، التعمُّد، الطُّهر، الحب، الإيمان، الغلف، الغل، الشرب، الحسرة، الوجل، التآلف، الرباء، تاغيظ، النفاق، الريبة، اللهو، الإخبات، الرعب، اللين، الحمية، الخشوع، وثالثها.. أفعال الله في القلوب: الطبع، الإنزل، الخيم، الحول، الربط، الإلقاء، السَّلْك، الإقفال، التأليف، التمحيص، التزيين، التظهير، الصرف التقطع، الشد، القذف، الكتبة، الران.
نبضة «7»
تترى الآيات التي تذكر صراحة أن المخ هو القلب: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) «الحج 46» و(ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) «الأعراف 179». والإنسان يتميز عن الأنعام بالقشرة الخارجية للمخ، نلاحظ في الآيتين 46 من سورة الحج و 179 من سورة الأعراف أن القلب ليس العضلة التي تضخ الدم حيث وضع الصفات والموصفات التالية:
(آذان يسمعون بها) الأذن عضو والسمع وظيفة الأذن.
(أعين لا يبصرون بها) العين عضو والبصر وظيفة العين.
(آذان لا يسمعون بها) الأذن عضو والسمع وظيفة الأذن.
(قلوب يعقلون بها) القلب عضو والعقل وظيفة القلب وهنا هو المخ الإنساني.
(قلوب لا يفقهون بها) القلب عضو والفقه وظيفة القلب.
وإن يظهر السؤال: لماذا لم يذكر المخ صراحة؟ فالجواب أنه في سورة الأعراف ذكر الجن والإنس وذكر القلب على أنه عضو التفقه، والقلب هو أنبل وأشرف عضو في المخلوق وهو المخ عند الإنسان وليس من الضروري أنه المخ عند الجن لأن الجن مخلوقات عاقلة من نوع آخر، فكان القلب الذي هو أنبل عضو بغض النظر عن اسمه الفيزيولوجي تحديداً هو قاسم مشترك بين الإنس والجن. وقد ذكر الزمخشري «أن القلوب مراكز العقول» «الكشاف م3 ص167».
نبضة «8»
ةإذا رتلنا الآيات التي تحوي على القلب فإننا نراها لا تخرج عن هذا المعنى إذ تعني أشرف وأنبل عضو في الإنسان وهو الدماغ وهو عضو التعقل كما أن العين هي عضو البصر والأذن عضو السمع، وهذا ما نراه في الطب الحديث إذ أن القلب الذي يضخ الدم يمكن أن ينتقل من إنسان إلى آخر دون أن يؤثر على شخصية الآخر. ولكن إذا انتقل دماغ زيد إلى جوف رأس عمرو «جوف الجمجمة» فإن عمراً سيصبح زيداً. ولكي نميز القلب الذي يعقل عن القلب الذي يضخ الدم يجب علينا أن نقول: «القلب» عن الذي يعقل و»العضلة القلبية» عن الذي يضخ الدم. ونحن نعلم الآن أن العضلة القلبية والدماغ هما الأعضاء النبيلة في الإنسان، والدماغ أنبلها حيث أن الموت يتحدد بتوقف الدماغ عن العمل لا بتوقف القلب.ويركب عناصر الأشياء بعضها إلى بعض ليصدر حكماً يتعلق بالوجود المادي الموضوعي أو حكماً يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي. هذه الوظائف المذكورة في الآيات جميعها إدراكية معرفية، فالقلب هو العاقل والمتدبِّر والمتفقِّه والعالم والسامع والمبصر، فهو الذي يدرك ما يتلقَّى من الحواس، وتعطُّله تعطُّلٌ للحواس، فالأذن تنقل المسموعات له، وخاصِّية السمع؛ بمعنى: إدراك المسموع وفهمه هي بالقلب، والعين تنقل المرئيَّات للقلب، وخاصية التبصُّر؛ بمعنى: إدراك المرئي وفهمه هي بالقلب، كما أن تأخُّر أو تعطُّل الإدراك بمراتبه يكون إمَّا لضعف طرق العلم إلى النفس أو لفقدانها، والله - تعالى - بيَّن أن الطبع على القلب والختم والإقفال والحجب له يعطله عن مهمة العلم، إما لأجزاء من العلم، أو للعلم كله.
نبضة «9»
سرد على محدثي الذي جاء لزيارتي أن جذب انتباهه إعلان معلق على أحد المحلات مكتوب فيه «تصليح القلوب».. دخل المحل فوجد رجلا كبيرا في السن قابله مبتسما حينما شاهده يقرأ ما هو مكتوب عدة مرات ..قال له مبتسما : نعم أنا أصلح القلوب وأعالجها، ثم أمسك بيده وقال : تعال.. اقترب.. ووضع أذنه اليمنى على موضع قلبه وأنصت.. ثم قال دقات قلبك فيها تسارع قليل، يا ولدي لا تجزع دواؤك بسيط.. القلوب عندنا نعالجها والقلوب تعالج حسب، نوعها فهي أنواع.. قال له اشرح، قال من خبرتي التي ورثتها من أبي عن جدي: في الدنيا قلب مشروح..وقلب مجروح.. وقلب مذبوح..قلب رحيق.. وقلب سحيق.. وقلب حريق.. وقلب غريق.. قلب منقوع.. وقلب مفجوع.. قلب سليم.. وقلب عليل.. وقلب سقيم.. قلب فياض.. وقلب جياش..قلب مغرور.. وقلب مسرور..والبحث يطول فسبحان مقلب القلوب.
فأعلم يابني أن القلب وديعة الله عندك، فإياك أن تفرط به أو تهمله، هو محل نظر الله عز وجل، وهو أنفس وأشرف وأغلى مضغة يمتلكها الإنسان، فهو طريقك إلى الله، لأن السفر إلى الله ليس سفرا بالأقدام، إنما هو سير القلوب إلى الله يقول الله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).
قلت له :جئتك بحيرة واحدة، فجعلتها الف حيرة..فضحك وتبسم تبسم العارف الحذق.. قال لي ياولدي لاتجزع عندي لك ولكل من يأتيني وصفة واحدة.. كل من جربها تعافى بإذن الله..فأتني بقلم وقرطاس واكتب عني ياولدي رزقك مقسوم فلا تتعب. وقدرك محتوم فلا تجزع .. وصديقك عاجز فلا تأمل .. وعدوك ضعيف فلا تخش.. طهر قلبك من ثلاثة: الكره والحقد والرياء.. وزينه بثلاثة :الصدق والإخلاص والورع..واجعل في قلبك ثلاثة :التسليم للمولى وحب سيد الورى ودوام شكر الخالق في السراء والبلوى.. واترك الخلق للخالق وانشغل بإصلاح حالك ودع أحوالهم.. وليكن لك ثلاثة : لسان ذاكر وجسد صابر وعقل متبصر عارف.. واهرب من ثلاثة :الحديث عن الناس وهوى الناس والجلوس مع من لا خير فيه من الناس، فالاستئناس بالحديث عن الناس من علامة الإفلاس..تناول دواءك ومن الله شفاؤك.
إنها منهج حياة.. فيه وبه تحيا القلوب...
نبضة «10»
اللهم زدني تحييرا في فهم الخيوط الدقيقة، والخطوط المتشابكة التي تلف القلب في التفقه والتدبر استلهاما من الآية الكريمة (فهل من مدكر) إنه تحيير جميل.. حيرة إيجابية يرتفع مؤشرها مع سياق العلماء وسباق الباحثين لاستخراج اللآلىء من التي في أحشاء بحرها الدر كامن، ولا نزال نسائل الغواص عن صدفاتها، لاسيما حين تنهل لغة الضاد من لغة الأعماق البعيدة في القرآن الحكيم.