د. عبدالله باحجاج
عنوان المقال هو رد على تجاذب تفاعل معه الرأي العام، وكان لنا فيه نصيب عبر مواقعنا في وسائل التواصل الاجتماعي في عطلتي الأسبوع الأخيرتين، ففي البداية نسب إلى مسؤول كبير في المجموعة العُمانية للطيران عن توجه المجموعة نحو خصخصة مطار مسقط الدولي والاستمرارية في الخصخصة، وليلة أمس صدر نفي يتعارض مع الخبر الأصلي الذي لم يسحب من موقع المجموعة حتى كتابة هذا المقال، مما نفسره تراجعاً تحت قوة ضغط الرأي العام.
ومهما يكن، فإنَّ الشركات الحكومية قد أصبحت الآن خطاً أحمر، وبنص سياسي صريح، ولن يجدي نفعاً الآن التلويح بخسائر هذه الشركات، ولا استنزافها أموالا من خزينة الدولة، كما حدث أمس عبر فيديوهات وتصريحات مرتبكة وقلقة، وراءها الخوف من فقدان مصالح ومنافع شخصية، فبالأمس تمَّ التلويح بمبلغ دعم تشغيلي 185 مليون ريال عُماني لهذه الشركات في موازنة 2020 في محاولة للتأثير على التوجه الوطني الجديد.
ووراء ذلك ما وراءها لم تعد مجهولة، وقد وقعت بعض النخب في الفخ، عندما رحَّبت دون وعي بطرح بيع أصول هذه الشركات للقطاع الخاص، دون أن تعي أنها بذلك تُجرد الدولة من مصدر قوة اقتصادية مضمونة في ذاتها إذا لم يكن كل الشركات الحكومية فعلى الأقل معظمها، ودون وعي، تخلع عن الدولة رداء الوطنية، كما سيأتي لاحقاً.
ونجد هذا النص السياسي في الخطاب التأسيسي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله وأيده بنصره، حيث قال جلالته إنَّ الدولة ستقوم بإجراء مراجعة لأعمال الشركات الحكومية لرفع كفاءاتها وزيادة مساهمتها في المنظومة الاقتصادية، أي عدم التخلص منها، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وينبغي التذكير بها، وهي مرجعيتنا في الدفاع عن بقاء أذرع الدولة الاقتصادية التي يبلغ عددها أكثر من 60 شركة تبلغ قيمة أصولها 20 مليار ريال عُماني، لكنها للأسف متفرقة ومتباعدة، وكل واحدة لها أنظمتها وقوانينها المختلفة، وكأنها جزر منعزلة، وهذا الانعزال قد جعلها صيدا سهلا لمجالس إداراتها التي تسند لكبار المسؤولين في الدولة، ويتم اختيار أعضاء مجالسها وفق محسوبيات ودرجات قربى؛ حيث تمنح رواتب خيالية.
نحنُ على يقين، بأنَّ ملف الشركات الحكومية وشبه الحكومية، سيحظى من لدن جلالته -حفظه الله- بأولوية آنية وعاجلة، وقد نشهد قريباً جدا نتائج تظهر فوق السطح، لأنَّ هذه الشركات تتعلق بالدولة الوطنية. فكيف ستظل الدولة محتفظة بمسماها الوطني وقد تجردت من أذرعها الاقتصادية، وتخلت عن مسؤوليتها في تأمين الخدمات الأساسية لمُواطنيها، وحولتها إلى القطاع الخاص المحلي والأجنبي؟
إشكالية هذا الطرح شكلت لنا قلقًا مرتفعًا قبل خطاب عاهل البلاد المُفدى؛ ففي الخطاب فقرة أساسية تُزيل القلق وتجعلنا نطمئن على دولتنا الوطنية بأبعادها التاريخية والاجتماعية مع تأقلمها مع روح العصر وتوجهاته الكونية المعاصرة، ففيها كامل الاطمئنان ليس على بقاء هذه الشركات، بل رفع كفاءاتها وزيادة مُساهمتها في المنظومة الاقتصادية، أي بقائها ضمن مصادر دخل الدولة، وفي ذلك تعهد سامٍ يسجله التاريخ انتصاراً للدولة الوطنية التي تأسست على يد المُؤسس الراحل السلطان قابوس- طيب الله ثراه-، وهذه الفقرة ننظر لها، وكأنها تقطع الطريق على الطامعين من الداخل والخارج بهذه الثروات الوطنية.
وكم أسعدتنا تلكم الفقرة، بتوجهها السياسي وببنائها اللغوي، وكل متأمل فيها، سيخرج بالنتائج التي أشرنا إليها سابقاً، فالعهد الجديد من منطوق ومضامين الخطاب، يراهن كثيرا على تطوير الشركات الحكومية ليس من أجل بيعها، وإنما لدواعي التطور من أجل حل إشكالية الخسائر التي تُعاني منها من جهة وتوسيع نشاطات الشركات الرابحة من جهة ثانية، وذلك بهدف مُساهمتها في تنويع بنية اقتصادنا العماني، ويستوي هنا الشركات الرابحة والخاسرة، فالأولى ينبغي أن تسمح بالتوسع والثانية بمعالجة أسباب خسارتها والدفع بها لتحقيق الأرباح، ولسنا مع الآراء التي ترى التخلص من الشركات الخاسرة.
والمتابع للخطاب، سيجد أن فقرة تطوير الشركات الحكومية وبقائها كثروات وطنية، قد جاءت بعد فقرتين مهمتين جدًا، لهما علاقة عضوية بفقرة تطوير الشركات الحكومية، وهما: "تحديث الجهاز الإداري للدولة، ودراسة آليات صنع القرار الحكومي وتطويرها" ويستلزم من أجل ذلك تحديث ترسانة التشريعات والقوانين في البلاد. ومن هذين السياقين يفهم أن إدراج تطوير الشركات الحكومية ضمن مفهوم التطوير الشامل المرتبط بوحدة السلطة وأهدافها المستقبلية، وحمولتها الاجتماعية، لدواعي اقتصادية واجتماعية، أي للحفاظ على مفهوم الدولة الوطنية.
وبهذا التوجه، سيتمكن عهدنا الجديد من الاحتفاظ بالطابع الوطني للدولة عوضاً عن تجريدها، كما يقف وراء ذلك بعض اللوبيات الاقتصادية ومن ورائهم شركات عابرة للوطنية، وسيضغطون بكل وسائلهم لترفع الدولة يدها عن كامل الاقتصاد ودعم المجتمع، فهم يريدونها دولة تحرس استثماراتهم الخاصة، وتعمل على ضمانة تعظيم أرباحهم من خلال عدم فرض رسوم عليها أو في الحد الأدنى منها.
ولإغناء مرحلة النقاشات الوطنية الراهنة، نقترح الآتي:
- استحداث وزارة للاستثمار في البلاد بعد تقليص عدد الوزارات، وتكمن أهميتها في تحقيق التطلعات، كون أن "رؤية 2040" تعتمد على ما نسبته 80% من الاستثمارات المحلية والأجنبية، لذلك فالوزارة التي ينبغي أن يختار لها شخصية متخصصة ومشهود لها بالنزاهة والكفاءة من موجبات المرحلة الوطنية، وتكمن أهميتها كذلك في ضرورة وجود تشريعات وقوانين وأطر وإستراتيجية واحدة ومتناغمة للشركات الحكومية عوضا عن استفراد كل شركة بمرتبات ومزايا خيالية، هي من بين أسباب خسارة الشركات الحكومية.
- رفع يد الوزراء عن الشركات الحكومية من قريب أو بعيد، وجعلهم يتفرغون لمهام الوزارات، وفي الوقت نفسه تحصين هذه الشركات ومن تدخلات الوزراء، وتمكين مسييرها ومؤطريها الجدد من إدارة بثقافة القطاع الخاص.
- الإسراع في إصدار ميثاق حوكمة موحد للشركات الحكومية لمنع الفساد والقضاء على مسبباته، ومن المعروف أن هذا الميثاق لم يصدر حتى الآن، وهناك من لا يُريد إصداره؛ وفق مصدر مطلع تحدث لنا.
- عدم ترك عمليات خطط وتنفيذ ومُراقبة الشركات الحكومية إلى نفس الأجهزة الحكومية التي كانت تتولى إدارتها أو الإشراف عليها أو تشغيلها، ونقترح في هذا الإطار أن تضطلع أجهزة مستقلة في الدولة وأهمها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة بعد تطويره وإعادة النظر في فاعليته المستقلة، ومجلس عُمان المكون من مجلسي الدولة والشورى، إضافة إلى تأسيس لجنة خاصة تابعة للمؤسسة السلطانية.
- ابتعاد الحكومة بأي شكل من الأشكال عن الشركات الحكومية.
- إقامة هيئة عليا لمكافحة الفساد تابعة للمؤسسة السلطانية.
وفي مقالنا المُقبل، سنقدم قراءتين لمفهوم الدولة، الأولى الدولة الوطنية، والثانية الدولة الحارسة للاستثمارات المحلية والأجنبية، وأيهما يصلح لوطننا عُمان، مع التأكيد على أهمية تطوير أجهزة الدولة المختلفة ومدى أهلية كل الفاعلين الحكوميين، وكل ذلك ينبغي أن يتم قبل تطبيق رؤية "عُمان 2040".