لن يأتي هذا إلا بالديمقراطية!

عبدالله العليان

منذ عدة أيام جرت حوارات عامة بين مجموعة من الباحثين والمثقفين والمهتمين بقضايا الواقع العربي الراهن، وكيفية انتشال هذا الواقع من التوترات والصراعات التي يُعاني منها بعض دوله، وأدلى كل طرف في الجلسة الحوارية برؤيته الفكرية تجاه هذا الواقع، وكيفية الخروج منه بحلول ناجعة، وامتدَّ النقاش حول الأسباب الكامنة وراء هذه الإخفاقات المتتالية التي تحصل في مسائل عديدة، إلى حدِّ اقترابنا في الحوار من طرح المقولة الشهيرة التي أطلقها الأمير شكيب أرسلان في كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟"

وعندما جاء النقاش: لماذا وقعت الأمة في هذه الإخفاقات والتراجعات، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي... إلخ؟ دارت الحوارات المتعددة في طرح أسباب هذه الإخفاقات والتراجعات، فبعض من المشاركين في هذا الحوار يرى من وجهة نظره أن ما جرى من إخفاقات لبعض الأنظمة، أنَّ الأسباب لا تكمُن في الأفكار والتوجهات، أو الفلسفات التي أخذت بها، لأن الأمر -كما رأي في طرحه- أن التطبيق لم يأت وفق ما طرحته الفكرة أو النظرية أو الفلسفة بصورة صحيحة، وكانت صياغتها جيدة، لكنها بعيدة عن التطبيق السليم للفلسفة بالصورة السليمة. لكن البعض يرى أنَّ النظريات أحياناً تكون حالمة وأقرب إلى المجتمع الخيالي (اليوتوبيا)، من حيث الكلام الجميل الذي يدخل روعته في القلوب والوجدان، لكن عند التطبيق تبرُز إشكالات كثيرة ومختلفة؛ لأن الواقع يختلف عن التنظير؛ فمثلاً عندما قامت الثورة البلشفية ضد القياصرة في روسيا في العام 1917، استمدت من النظرية الماركسية في فهمها للتطبيق، لكن الواقع لم يستجب لهذه النظرية بكل تفاصيلها، فقام لينين بتعديل في هذه النظرية لتتواءم مع الواقع الجديد في مجتمع غير زراعي، لكن النظرية وضعت لمجتمع صناعي، كما لم تتلاشَ الدولة في هذه النظرية، وتسقط باعتبارها من بقايا الرأسمالية القديمة، بل واستقوت الدولة في روسيا، وتوسعت أكثر وأكثر مع الفكر الشمولي، وأدت مع الوقت إلى التراجعات والفشل في جهاز الدولة، وفي المجال الاقتصادي بالأخص، وفي الأخير أدى لسقوط الاتحاد السوفيتي، الدولة الكبرى، مع كل المعسكر الشرقي المرتبط بها سياسيًّا وفكريًّا.

وفي الدول الليبرالية الغربية -التي أعقبت الرأسمالية المتوحشة- فقد أخفقت أيضاً في الكثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأدى هذا إلى التعديل والتغيير في النظم الليبرالية، فيما يُسمَّى بالليبرالية الجديدة، وأعقبتها سياسيات اقتصادية، حيث اهتمَّت بالجانب الاجتماعي، ودخل الفرد في النظام الرأسمالي... إلخ، والحقيقة أن الذي أفاد الرأسمالية، وابنتها الليبرالية، هو مسألة الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، وهذا ما أخفقتْ فيه النظم الاشتراكية، في أغلب بلدان تطبيقها، ودار الحوار أيضاً حول ما يجرى في الوطن العربي من توترات وصراعات وإخفاقات، لا أول لها ولا آخر؛ فدار النقاش وتشعَّب حول ما جرى ويجري في بعض بلداننا العربية من مشكلات قائمة وخافتة، فكانت الآراء شبه متقاربة حول هذا الواقع وتحدياته، وإن كانت هناك تحليلات تتعدد وتتنوع حول أسباب الفشل والإخفاقات التي حصلت في بعض البلاد العربية، فالبعض يرى أنَّ المؤامرات الخارجية، أسهمت فيما نحن فيه من تراجعات وصراعات تظهر وتختفي، ثم تعود، لأن الآخر يريدنا في الذيل؛ لأسباب سياسية تاريخية واقتصادية، والبعض الآخر في مناقشاته في هذا الحوار، يرى أن الاستبداد والقمع هو الذي أدى بنا لسياسات استبدادية وشمولية، جرت علينا الويلات والمصائب، لكنني أعتقد -وقد أصيب وقد أخطئ في هذا- أنه بعد الاستقلال في الخمسينيات والستينيات، عندما قامت الدولة القطرية التي نجحت في تحقيق الاستقلال في القرن الماضي، كانت هناك مُؤسسات قائمة للديمقراطية في دول بعينها في الدولة التقليدية، والتي كانت مستعمرة، لكن الدولة الوطنية -كما يُسميها البعض- لم تبق على هذه المؤسسات السياسية القائمة، وتعديل ما يُمكن تعديله مما يشوبها من سلبيات، بل إنها أنهت هذه المؤسسات، وأممت الصحف الخاصة، ووضعت في كل صحيفة رقيبًا على ما يُكتب فيها، ولم تقم مؤسسات ديمقراطية يُتاح فيها للرأي الآخر المختلف أن تتعدَّد فيه الأفكار والآراء وتختلف وتتناقض بما يُؤسِّس للرأي الصائب من خلال الحرية، وكان رأيي أنَّ هذا لن يتحقَّق إلا في ديمقراطية صحيحة، وليست في ديمقراطية -ديكور لا ينفع ولا يضر- فهذه قمة الديكتاتورية بعينها فالغرب الرأسمالي نجح نجاحا باهراً في جعل الديمقراطية طريقاً للنظام في الغرب، وتخلَّص من الصراعات والحروب بينهما لعقود طويلة، وأصبحت الديمقراطية، أكثر الطرق والوسائل لوقف الاحتقان السياسي، والقبول بما تنتجه صناديق الاقتراع، ويرجع الفضل في هذا إلى الفيلسوف جان جاك روسو، بما أرساه في كتابه "العقد الاجتماعي"، الذي وضع فيه فلسفته لنظام مستقر في الغرب الليبرالي، بعيد عن الحروب واستخدام القوة لفرض الرأي أو الحكم، دون قبول الناس في هذا الذي أو ذاك، ونتذكر ما جرى في بعض البلدان العربية في الخمسينيات والستينيات، كانت تنعم بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن عندما جاءت الانقلابات، وتوالت الانقلابات، عاشتْ إلى الآن في عدم استقرار، وبعضها في حروب داخلية، وانقسامات، تحوَّل بعضها إلى عنصرية ومذهبية، وبروز الأفكار المتطرفة التي تعتبر أحد مخرجات الاستبداد والقمع، التي جرت على تطرف مقابل، وهذه مسألة تحتاج إلى رؤية ومراجعة، أكثر ما تحتاج إلى حرية وديمقراطية وتعددية، لتعيش الأمة في وئام وسلام اجتماعي وتقدُّم في شتى المجالات.